قراءة في السياسة د/سيدي أحمد ولد البشير

قرر أهل الشأن في البلاد، تجديد إسم الحراك السياسي المتنفذ.
إنها حقيقة، خطوة تجعلهم أمام حرج مسؤولية كبيرة، لا يستطيع أحد أن يحسدهم عليها ؛ لاسيما، في هذه المرحلة الصعبة، من التاريخ.
و هو الحراك الذي، تمتد جذوره إلى أكثر من ثلاثة أرباع قرن، يوم أن بدأه أباؤنا، بحماس الطيبين و بجدية الصادقين... في كبد زمن الاستعمار المباشر.

و الحرج في هذا الموضوع، هو أن التطلعات باتت ملحة و ثقيلة (عالية) و لا تكترث بأي إكراهات، مهما كانت قوتها، و مهما تداخلت فيها أبعاد محلية و دولية. و باتت و كأنها لا تتحمل تفويت الفرص.

و تسمية حزب السلطة بإسم جديد هو مناسبة حقيقية لهذه التطلعات للإلحاح على نفسها، و ذلك، لبدء نهضة وطنية صادقة تتسم بجموح جلي، فيه صلابة نفس و قوة إرادة.
و هي التطلعات التي لم تعد تقبل من الآن، أي استسلام لتيارات الرياح و لا أي استكانة في زوايا منعرجات الزمان...

إن الوضع فعلا حرج. فمن قال بأن هذه الخطوة الأخيرة في حراكنا السياسي المتنفذ، ليست هي آخر فرصة لنا من أجل تلافي الضياع التام... و الناس، قد تضرروا كثيرا، و ملوا هدر الفرص ؟

و ماذا لو استجبنا لنداء الوطن و الآباء و كان حدث إنشاؤنا للإنصاف هذا على مستوى التطلعات العالية المرجوة، و كان أبناء بلدنا المسؤولين عنه على قدر المسؤولية. ماذا لو تحلوا بهمم خارقة، قاسمين بالماحقات، أن يكتب لنا، أخيرا، تاريخ معاصر على هذه الأرض...

عندها ستولد ملحمة كبرى، سيسجلها التاريخ بفخر بحروف من ذهب ؛ سينفض فيها الغبار عن حراكنا المثقل بترسبات كثيرة، و يراجع توجهه، و يلهم الناس جميعا إلى شد الأحزمة، و توحيد السواعد ؛ لتحقيق حتمي لأحلامنا العصية. أحلام آبائنا... المتمثلة في تأمين مستقبل أبنائنا.

و أحلام الآباء هذه، المنصبة دائما، على تحقيق أمن الأبناء، تجعلني أرغب في إقحام فكرة هنا، قد لا يحتاجها اقتصاد نصي، ألا و هي : "أن الحياة حقيقة، حلقة حلم، متجدد مع كل جيل جديد من الأبناء" !

---

لنلقي الآن نظرة عابرة، على بيئتي، نشء حراكنا السياسي و قرار تغيير إسمه الأخير. و شتان ما بينهما !

البيئة الأولى كانت في الأربعينيات بعد سنة 1900 من التقويم الميلادي و البيئة الثانية هي، هذه السنين.

في هذه السنين، نحن في فوضى الرأسمالية اللا إنسانية، في منطقة هيمنتها القصوى. نحن فيها أرقام لا بشر، وسائل لا غايات... نعيش في طوفان غير مسبوق من تقنيات بينومية رهيبة، تمتلك قدرة عجيبة في اختراق كل واحد منا، منفردة به عن مجتمعه و متحكمة في وعيه و موجهة له لما يريده منها رأس المال.

اللهم ارحم زمانا قد ولى، عهدناه بالأمس القريب، و أصبح اليوم و كأنه، على بعد مسافات ضوئية موحشة منا.
فلم يعد إلقاء التحية على العابرين على تأنيه و طعمه المعهودين، و لم تعد مجالسة الأحبة على معيتها الممتعة المعروفة، و لا اهتمامنا بالطبيعة الأم و انبهارنا بها، كما كانا ؛ و لم نعد نتغنى على سحر الجبال و نحن نتجول في سفوحها الخضراء و لا على روعة الوديان و نحن جالسون في الظل، على التلال المحاذية لها ؛ كما أننا لم نعد نترنح الهوينى في مراعينا خلف أبقارنا في عليل المساء...

هذا، و لم نعد نتطلع في هذه البيئة الغريبة، إلى الأفق كما كنا نفعل... فاضمحلت الأحلام... و خفت صيت رجال ملؤوا دنيانا مهابة مثل جيفارا و المهاتما غاندي و صار ذكر أبطال آخرين بخير، سذاجة بعد أن كان افتخارا و اعتزازا...

إنه إذا، لجدب مرير من كل قيم الإنسانية العريقة، هذا الذي، نحرك فيه اليوم، البنان لنقول أننا هنا... و أننا عازمون على أن نحيى...

أما في الأربعينيات من القرن المنصرم، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، و بعد أن قرر الاستعمار فتح جو سياسي عادل، يتنافس فيه أبناء كل المستعمرات بكل حرية و شفافية، خدمة لحوزاتهم الترابية، المسماة أنذاك، بأراضي ما وراء البحار (Territoires d'Outre-Mer) ؛ كان العالم شيئا آخر.
كانت الحياة مشاهد وجدانية حية، فيها تناغم رائع بين الناس فيما بينهم، و فيها علاقة حميمة بين الناس و الكون من حولهم...
أيامها كنا نسير رزينين، في ألوان الوجود الخلابة، بعيون ملآ بالمشاعر الطيبة في العيون... و بأيادي حبلا بالمودة في الأيادي...

في صفاء تلك الأيام العظيمة، كانت الوثبة الأولى لحراكنا الوطني القاضي بإرساء دولة مواطنة عادلة في حيزنا الجغرافي، على أنقاض الفوضى و السيبه و الهمجية...
و كانت الرياح مؤاتية و كان الطريق معبد و منحدر...

---

كان رجال النشء أحرار في نضالهم من أجل إرساء بلد المواطنة و المدنية الذي يتساوى فيه كل الناس في هذه الربوع رغم وجود الاستعمار.

كانت أجواؤهم السياسية ديموقراطية بأعلى المقاييس...!

فيهم من ناضلوا من أجل ذلك الهدف و هم متمسكون بالاستعمار، مبررين ذلك بأن موريتانيا المقتطعة من أحد عمقيها الحقيقيين - الصحراوي الممتد شرقا إلى حدود اتشاد أو المغاربي الممتد شمالا إلى البحر الأبيض المتوسط - لا تستطيع حماية سيادتها من أطماع غيرها لوحدها. مع أنه حقيقة، و هذه مني، لا يشكل مستعمر وراء البحار أي عمق أمني استرتيجي لأي بلد مهما كان.

و فيهم من ناضلوا من أجل ذلك الهدف مطالبين في نفس الوقت بتحرير البلد و حجتهم أن كل مجموعة بشرية مهما كانت منعزلة و قليلة، تستطيع حماية نفسها و تحقيق الرفاه لأفرادها إن هي أخليت لسبيلها... و هذا الشرط صحيح و لكنه غير واقعي في عالم جشع يحكمه قانون الأدغال...

و من هؤلاء الحالمين الأوائل رجال منهم بياكي عابدين و حرمة ببانة و سيدي المختار انجاي و أحمد باب أحمد مسكه و دامبيلى اتشيكورا، رحمهم الله جميعا.
و منهم كذلك أيضا رجال أول نظامين بعد الإستقلال. ألم يقلص الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله، نفوذ برلمانه المتكون من سادة القبائل، لإضعاف المنظومة القبلية ؛ و يسر حزبه حزب الشعب الأوحد أنذاك، لمحاربة إرث السيبه ؟
و قد أستخدم الرئيس محمد خونه ولد هيداله أطال الله في عمره، هياكله المتنفذة، لتهذيب الجماهير من أجل تمسكها بمفهوم الدولة الواحدة و التشبث بها و من أجل التخلص من رواسب الماضي و أعبائه...

و بانتهاء الهياكل ينتهي طريق ليبدأ آخر...و لا لوم على أهل الشأن اللاحقين. فالكل يعلم أن الظروف الجيوسياسية هي التي تسببت في منعرج مضر. كان فقط عليهم أن يتسموا بوعي و شجاعة تمنعهم من اتباعه...

---

في الثمانينيات، فرض صندوق النقد الدولي سياسات الخوصصة على الدول الضعيفة (.P.A.S)، و انتهت الثنائية القطبية التي كانت حامية شيئا ما، للإنسان كفرد، في هذا الوجود أينما كان في العالم، و فرضت ديموقراطية مستوردة على كل المستعمرات الفرنسية السابقة لها مآرب و مدعومة بهبات مالية سخية ؛ فتغيرت الأحوال و تأثر سلبا مسار حراكنا الوطني، و ضل طريقه !

و هي الأحوال التي استشرى فيها فساد غير مسبوق و ظهر فيها جيل من الأثرياء الجدد، سيحلون لاحقا محل أسياد القبائل الأصليين.
و عودنا إلى مربعنا الأول و إن بثوب جديد..!

صدق من قال بأن الطبيعة حقيقة كالنابض، إن حاولت إخفاءها عادت إليك على أحسن أحوالها في أسرع الأوقات...
---

اليوم و قد قررنا، تحمل المسؤولية بتسمية جديدة لمشروعنا السياسي، فهي إذا مناسبتنا المنشودة للعودة عن المسار الجزافي الذي فرضته علينا الظروف الجيوسياسية.
و قد تاهت بنا تلك الظروف سنينا تلو سنين حتى أصبحنا على شفا جرف هار.
لم نته وحدنا، فدول كثيرة جرفها التيار منها دول ضاعت إلى الأبد. و منها من استدركت نفسها و قومت حالها و ربحت استقرارها و عافيتها...
ففرنسا الحديثة مثلا - لا أذكرها لتجانس بيننا في الحجم أو هشاشة في البنية، إنما لترابطنا الجلي في التاريخ المعاصر - غيرت نهجها الجمهوري مرارا كي لا تضيع و هي الدولة العظمى و كان لها ذلك.
و حتى في النهج الواحد قامت فرنسا بتحولات غير تقليدية من أجل مواكبة الزمن. فتغير التنوع الحزبي فيها، و تغير الطرح، و تغيرت المسمياة، و ظهرت أسماء لم تكن في حسبان أحد، كإسم حزب Génération.s الذي جاء على أنقاض حزب افرانسوا ميتران الاشتراكي العريق.

الوقت إذا في بلدنا، هو للعودة إلى طريق البناة، الذي تلتحم فيه الجماهير مع الدولة تلقائيا.

كفانا تلاعبا بأنفسنا، فما نحن بقطعان ماشية تابعة لمن لهم حظوة أوفر من المال !

و العودة المرجوة، ليست سهلة و هي بمثابة سير عكس التيار و لن تكون إلا بآلية صادقة مع نفسها و مع الناس... أو بعودة إلى ما كان موفقا شيئا ما، من تجاربنا الماضية. كأن يكون حراكنا مثلا، حزب شعب، منفتح على التعددية، مهذب للجماهير ؛ و أكدنا صدقيته في ذلك، بزمرة من التدابير ينال بها انضمام جماهيرنا له و ينهي بها إلى غير رجعة، انفصامنا السياسي المؤلم الذي ظل طويلا يثقل كاهل وجداننا، الذي يجمع فينا، في آن واحد، ثلاثة ماهيات متناقضة هي : "موريتانيا الوطن"، "موريتانيا السلعة" و "موريتانيا السيبه"...!

و من هذه التدابير هذه النقاط "العفوية" brainstorming التالية :

١. أن نعلن الإنصاف و هو الحراك الجديد، بصوت جهور، توبة من كل الانحرافات السياسية الخاطئة الأخيرة.
٢. أن نعلن الإنصاف، توقفا عن الكذب على أنفسنا بأننا دولة مدنية و حقيقتنا تحت الطاولة هي أننا قوم عادوا إلى ما وراء ما ناضلنا عقودا من أجل الابتعاد عنه...
٣. أن نعلن الإنصاف، صرخة قوية في وجه الفساد و الرشوة و الزبونية
٤. أن يكون الإنصاف حقيقة، آلية قوية لتثقيف و تهذيب و بناء جماهير مدنية.
٥. أن يهتم الإنصاف بكل نقاش جاد مع معارضة وطنية قوية تشاركه هم بناء البلد و لا تحركها أجندات أجنبية.

أخيرا، ليست خلاصة القول، أن يكون الإنصاف سيرا في ظلال الجدران أو اعترافا بإفلاس بلدنا الغالي...

خلاصة القول، أن يكون الإنصاف إنصافا لنا من أجل انطلاقة حقيقة لا نجامل فيها أحد، تتميز بحزم شديد، قادر على تكسير كل القيود ؛ و بهمم مشحونة بإحساس وطني غير مسبوق، قادرة على رفع كل التحديات...