التسامُح، الصَّفح، الشراكة د. عبد الله إبراهيم*

 

 

 

كانت تجارب العنف في التاريخ الإنسانيّ خطِرة جدّاً مَحقتْ شعوباً وأُمماً، وهدّمتْ حضارات، وخرّبتْ ثقافات، وطَعنتْ وجدانَ كثيرٍ من الأقوام، وأَبطلتْ فُرصاً كثيرة للحوار كانت مفيدة للإنسان، ولا عبرة من مُمارَسة العنف غير إيقاد جذوة الحقد، وطَلَب الثأر، وينبغي بذْل المستحيل للحدّ من هذه الظاهرة، ففي الوقت الذي لا يجوز فيه التقليل من المُنازَعة بين الأُمم بل نقْدها، وتفكيك أواصرها، فيلزم الحديث، أيضاً، عن ثقافة التسامُح، والصَّفح، والشراكة؛ فذلك ما يروم إليه حوار الثقافات، ويصبو إليه تحالُف الحضارات.

إنّ الماضي لا يُنسى بالإهمال، إنّما بتفريغ شحنات الكراهيّة منه، وفتْح الحوار في هذا الموضوع يكبح البغضاء، ويُحرِّف مَسار سوء التقدير صوب حسنه.

العنف الجماعي هو إفراز مباشر للتعصُّب، والتعنُّت، والتطرُّف، وفضلاً عن ضرورة تجفيف منابع تلك المَظاهر، لا بدّ أن يحضر التسامُح ثمّ الصَّفح لطَي سجلّ آثاره المؤلِمة، ولذلك استأثَر موضوع التسامُح باهتمامٍ جدّي منذ أن أَصدر الفيلسوف الإنكليزي "جون لوك"، باللّغة اللّاتينيّة، كِتابه "رسالة في التسامُح" في العام 1689 فَجَعَلَهُ دعوةً للتسامُح الديني، لِما كانت عليه أحوال المذاهب المسيحيّة من شقاقٍ دمويّ في القرن السابع عشر، ورأى أنّ التسامُح هو جوهر الدّين الحقّ، ودعا إلى حريّة الأديان والمذاهب، ونَزَعَ عن الدولة حقّ النّطق باسم الدّين، فقصرَ دَورها على رعاية الحقوق والواجبات المدنيّة، ولا يحقّ لها توظيف الدّين في إدارة رعاياها، ولا المُفاضَلة في ما بينهم على قاعدة الدّين أو المَذهب، ولا بدّ من إشاعة روح التسامُح التي هي الطريقة الفضلى للاعتراف، والقبول، والشراكة بين الناس أيّاً كانت مُعتقداتهم.

ثقافة التسامُح والتنوير

خصَّ لوك الدولةَ بواجبها الدنيوي، وتَرَكَ للكنيسة واجبها الديني، مُحذِّراً من التشدُّد في الأدوار "الدولة مُجتمع من البشر يتشكّل بهدف توفير الخيرات المدنيّة، والحفاظ عليها، وتنميتها" (جون لوك، رسالة في التسامُح، تر. منى أبو سنّه،1997). وهي عنده حقوق: الحياة، والحريّة، والصحّة، والراحة، والملكيّة، فغاية السلطة هي "رعاية الشؤون المدنيّة وتنميتها فلا تمتدّ الرعاية، بأيّ شكلٍ من الأشكال، إلى خلاص النفوس" (رسالة في التسامُح) للاعتبارات الآتية: خلاص النفوس ليس من شأن الحاكِم المدني، ولا من شأن أيّ إنسان آخر، والحاكم المدني ليس مفوَّضاً من الله لخلاص النفوس البشريّة، والله لم يكلّف أيّ إنسان بذلك، ثمّ إنّ رعاية النفوس ليست من شأن الحاكِم لأنّ عمله يندرج في إطار سلطةٍ برّانية لا صلة لها بالخلاص الجوّاني للنفوس، وأخيراً، فخلاص النفوس لا يتمّ بسلطة القانون، وقوّة العقوبات، حتّى لو قيل ذلك بألف ذريعة، فالآراء الدينيّة كثيرة، وللناس حقّ الاختيار في ما يريدون منها، والأفضل هو تحريرهم من أيّ إرغام لهم على ما تريده الدولة، لأن "سلطة الحاكِم المدني تتعلّق فقط بالخيرات المدنيّة للبشر، وتقوم على حماية الأشياء المتعلّقة بهذا العالَم، ولا تمتّ بأيّة صلة إلى العالَم الآخر" (رسالة في التسامُح).

أراد لوك أن يلقي الضوء على ما كانت عليه أحوال الدولة والكنيسة من تداخُلٍ عنيف في المسؤوليّة آنذاك، فذهب إلى أنّه لا يحقّ لأحد أن يُرغم الآخرين على ما يؤمن به، فالإيمان مسألة شخصيّة، ولم يُخوّل الله أحداً أن يمنحه للناس، ويُحدِّد طبيعته، ويَرسم حدوده. وبهذا التفريق فَصَمَ الصلة بين ما هو ديني وما هو دنيوي، على الرّغم ممّا ظلّت عليه كثيرٌ من الأُمم في الخلْط بين الاثنَيْن. والحال، فقد بَذَرَ لوك بذرةً نَمَت بعد ذلك، وأصبحت ثمرة ناضجة في القرون اللّاحقة، ولاسيّما حينما تبنّى "فولتير" مبدأ التسامُح، في دلالته الدينيّة والدنيويّة، فأَصدر كتاباً بالعنوان ذاته "رسالة في التسامُح" في العام 1763، صرّح فيه بوضوح بأنّ التسامُح "لم يتسبّب في إثارة الفِتن والحروب الأهليّة، في حين أنّ عدم التسامُح عمّم المذابح على وجه الأرض" (فولتير، رسالة في التسامُح، تر. هنرييت عبودي، 2009)، وعلى البشر "أن يبدأوا بالتحرُّر من كلّ تعصّب ديني كيما يستأهلوا معاملتهم بالتسامُح" (فولتير، رسالة في التسامُح). ومنذ ذلك الحين أَصبحت ثقافة التسامُح ركناً أساسيّاً من مَلامِح عصر التنوير، فلا تُبنى مقوّمات الحياة بالتعصُّب والكراهيّة بل بالتسامُح والصَّفح والشراكة.

يقترن التسامُح بالصَّفح عن الأعمال المُشينة التي لحقت بالضحايا جرّاء النّزاع بين الأُمم، فطلَب الصّفح، وليس الإنكار، قد يكون كفيلاً بإعادة الاعتبار لتاريخٍ أعمى قامَ على التمايُز والتفاضُل بين الشعوب والمُجتمعات، فطلَب الصّفح عن أعمال الشرّ، وعن عصر الشرّ، وعن رجال الشرّ، قد يُعيد ترتيب العلاقة بين الناس في حياتهم الحاليّة، كي لا تُصبح الجريمة فَخراً، وكي لا تبقى الكراهيّة تَحتدم في قلوبٍ مُقفلة، وكي لا يتحمّل مسؤوليّة الأذى أبناء عصر آخر، فالصَّفح هو الإقرار بما كُتب بالدمّ في صفحة الماضي، والاعتراف بما دوّن بالعذاب فيها، ثمّ التغاضي عنه، ليكون عبرة لا مَبعث كراهيّة، فهو فعلٌ نفسي وأخلاقي له دَور عظيم في ترميم علاقة الحاضر بالماضي، وثمرته الإنصاف الاعتباري للضحايا الذين فُتك بأرواحهم، وبأجسادهم، وبكراماتهم، وإقامة قطيعة مع وعي الإبادة والاستعباد بدلَ الافتخار بهما كي لا يقع تسميم الذاكرة بلَوثة الشرّ ومفعوله، إنّما الاعتراف بما طَوته تلك الصفحة من ضَرر.

يُصبح الصَّفح ضروريّاً حينما يَستبطن الإثمُ الذاكرةَ، وكي لا تكون الذاكرةُ مَوقداً للكراهيّة، وهو صفْح لا يُقدّم لأحد بعَينه، بل يُخاطِب ضميراً. فلا الجناة، ولا الضحايا، على قَيد الحياة، إنّما لذريّتهم يتوجّه طلب الاعتراف بالإثم، ومنهم يُلتمس الصَّفح، ولأنّ الإثم أكبر من أيّ عقاب، فلا مُكافئ له غير الصّفح عنه، وإيداع الاثنَيْن في سجلّ الذاكرة والتاريخ.

الصَّفح قدرةٌ على القبول بما يترتّب عنه من محوِ آثار الظلم، ومن عزْمٍ على تخطّي الكراهيّة، وهو ليس ضعفاً واستسلاماً، بل هو قرار أخلاقي بطَيِّ سجلّ الماضي من دون الحنين للانتقام، وهو ضروري لتجاوُز ما تتركه الحروب الأهليّة، والنِّزاعات الدينيّة، والتجارب الاستعماريّة، والسياسات العنصريّة، لتنقية الذاكرة الجماعيّة ممّا استوطنها من شعورٍ بالأذى، وإحساسٍ بالقهر، ورغبةٍ في الانتقام، ما خلا الجرائم ضدّ الإنسانيّة قصْد الإبادة لغاياتٍ صريحة أو حتّى مُبطّنة. ينبغي ألّا يكون الصَّفح وسيلةً للقبول بغلبة طرف قويّ على آخر ضعيف، ولا العفو عن ضَرر ما بَرح قائماً، ولا الهروب عن حالٍ من الشعور بالإذلال، ولا إغفال جور تأتَّت عنه غلبة ما برحت تَهدر كرامة جماعيّة، فهذه الضروب وأمثالها من الأفعال لا يُعالجها الصَّفح، إنّما يُعالِج، أو يفيد في مُعالَجة، ما أصبح ذكرى قديمة، وما أضحى بعيد المنال، فلا نفع من معاودة التفكير فيه بغاية الانتصاف والانتقام. أي أنّه خيار ضروري لإعادة ترتيب العلاقات الإنسانيّة في ضوء قرارٍ واعٍ بالانفتاح نحو المستقبل" (جاك دريدا، الصّفح، تر. مصطفى العارف وعبد الرحيم نور الدّين، 2018).

ليس التسامُح منّة، ولا الصّفح هِبة، يتفضَل بهما أحدٌ على غيره، إنّهما حقٌّ ينتزعه الأفراد في مُجتمعاتٍ تُدرك قيمة الاختلاف، وينبغي أن ينهض بهذه المسؤوليّة نخبة من المفكّرين الدنيويّين فيكونون طليعة تَفتح الأُفق أمام الآخرين. يَقع حراكٌ حقيقي في بنية المُجتمعات الإنسانيّة، إذا أُشيعت حريّة الرأي، وقبول الاختلاف، والجرأة على نقد الذّات والآخر نقداً موضوعيّاً وجذريّاً، ثمّ الانتهاء إلى قبول هويّة ثقافيّة متغيّرة، ومركّبة، وليس صافية نقيّة بإطلاق. والهدف هو إضفاء أهميّة على البُعد التاريخي لتشكيل المُجتمعات الإنسانيّة من دون أسْرها في نِطاق النِّزعات اللّاهوتيّة المجرَّدة. ليس التسامُح عفواً يصدره الآخرون عن مارقين بعد تَوبتهم، إنّما هو قبولٌ كامل بالآخر المُختلف، بما يجعله مُشارِكاً في كلّ شيء، وليس مُلحقاً مهمَّشاً ذا دَورٍ تكميلي. وهو فعلٌ مقصود يُتّخذ من أجل غرْبلةِ التاريخ، وتنقية النفوس من الأحقاد.

في الدّين العاقل

أين يفعل التسامُح فعله؟ وأين يَجد الصَّفح مكانه؟ أُسارع إلى القول إنّهما ينتعشان في حقلِ الأديان التي إن غاب التسامُح والصَّفح عنها أَمست مستودعاتٍ للكراهيّة، فالحوار بين الأديان، وهو شكلٌ ثقافي عميق من أشكال الحوار الحضاري، يُمهِّد الأرضيّة للتفاعُل بين المُعتقدات، ثمّ يُسهِّل التواصُل بين المُجتمعات، ذلك أنّ التجربة الدينيّة، مرَّت، عبر التاريخ، بمراحل كثيرة تكويناً وتفسيراً وتأويلاً، فقد تعاقَبت الديانات، وتعاقَبت تفسيراتها، وفي كلّ عصرٍ يُهيْمن نَسَقٌ من أنساقِ التفسير والتأويل، وكّلما كانت التجربة الدينيّة موضوعاً للتحليل فَتحت الآفاق أمام تأويلاتٍ جديدة، فالنصوص الدينيّة ثريّة بالإيحاءات، وتَمنح التفسيرات مشروعيّتها من حيث قدرتها على مُواكبة التطوّرات الاجتماعيّة إذا فتحت آفاق التفسير أمامها، ولم تُحجز خلف تفسيرٍ ضيّق.

ولعلّ من أهمّ المُفكّرين الذين أَدلوا بدلْوهم في هذا الموضوع، المفكّر وعالِم الاجتماع الألماني "يورغين هابرماس" الذي أكَّد على أنّ "المُستقبل للدين العاقل" أي الفهْم العقلاني للدين، وليس الفهْم اللّاهوتي له. ففي مُجتمعٍ حديث قَطَع الصلة مع الأساطير والخرافات، لن يبقى من الدّين غير "الدّين العاقل"، وينبغي عليه ألّا يَدفع بالمُنتمين إليه، والمؤمنين به لاقترافِ أعمالٍ عدوانيّة عنيفة، كما يقع في كثيرٍ من بِقاع العالَم. وعلى الوعي الديني أن ينتفع من مُعطيات العقل الحديث، ويتفاعل معه ما يخلع سمة عقلانيّة على الدّين، فيكون هابرماس قد دعا إلى "عقلانيّة نقديّة" توقِفُ طغيان "العقل الأداتي" الذي أحال فعل العقل إلى فعلٍ مضادّ بنتائجه العامّة للإنسان، ونادى بعقلٍ "نقدي اتّصالي" (عبد الله إبراهيم، المُطابقة والاختلاف، ج1، 2018).

تدفع دعوة هابرماس بالدّين ليكون جزءاً من حركة التحليل العقلي، لأنّ الظاهرة الدينيّة أصبحت حاضرة بقوّة في نِزاعات العالَم المُعاصِر، وأصبح الهروب من تحليلها وإعادة تأويلها، هروباً عن مُمارَسة الدَّور الحقيقي للمثقّف، وفي الوقت الذي ينبغي فيه كبْح التفسيرات المتطرّفة للنصوص الدينيّة، ينبغي مدّ الجسور بين الأديان السماويّة، فمَصدرها واحد، وهو الله، وهَدفها واحد هو الإنسان في الدنيا، فالمُعالَجة العقليّة للشأن الديني يَفرضها عالَمٌ مُتداخل من الديانات صار الحوار بينها ضرورة لا مَهرب منها، وكلّ فرد ينتمي إلى دينٍ ما ينبغي عليه أن يأخذ بالحسبان أنّه عنصر في عالَمٍ متعدّد من الثقافات، والديانات، والأعراق، والتخلّي الكلّي عن التفكير بمُنتصرٍ أو غالب، فذلك عهد مضى، واتَّصل بالدعوات التبشيريّة، وقد تخطّى العالَم تلك الحقبة. وإدراج الدّين، بالتأويل العقلي له، هو وسيلة من وسائل الحوار بين الأُمم والثقافات والحضارات سيتأدّى عنه نَفْعٌ عظيم، وحينما يُدعم ذلك بالتسامُح والصَّفح، فسوف يَقَعُ تمهيدٌ للشراكة التي لا سبيل لسواها في حياة الإنسان.

*ناقد وباحث أدبي من العراق