الشيخوخة ليست سبباً للموت د. حسن الشريف*

 

 

 

تدور عجلة الحياة بإنتاج أنزيماتٍ واستخدامها على مستوى الخليّة، بخاصّة عند إنتاج الطّاقة واستهلاكها. ويستمرّ الجسم الحيّ بتحريك تفاعُلاتٍ متعدّدة ومُتداخلة، وذلك كلّه من ضمن قوانين الطبيعة في علوم البيولوجيا والكيمياء والفيزياء، ولكن ليس في هذه القوانين ما يُشير إلى أنّ للحياة نهاية حتميّة، طالما كانت الخلايا في الجسم الحيّ قادرة على إنتاج الطّاقة واستخدامها، وطالما كانت المعلومات الضروريّة في إدارة هذه العمليّات والسيطرة عليها محفوظة في ذاكرة الخلايا، أي في الجينات الوراثيّة المتمثّلة بالهيكليّة اللّولبيّة المزدوجة وبطبقة الأبيجنوم التي تتفاعل معها.

وقد سعى الإنسان مبكّراً لاكتشاف "إكسير الحياة والشباب"، إلّا أنّ الجهد مؤخَّراً في دراسة مرض الشيخوخة ومظاهرها أصبح في مراحل متقدّمة في مختبرات وعيادات مختصّة بمرض الشيخوخة وعلاجه، منتشرة في العديد من الدول.

يقول سنكلير، صاحب نظريّة المعلومات لمرض الشيخوخة، وكما ورد في مقال سابق، إنّ الحياة طوّرت مبكّراً ما سمّاه "دائرة الحفاظ على الحياة Survival circuit" زوّدت بها كلّ الخلايا الحيّة وكلّ الأنظمة الحيّة. ودور هذه الدائرة الحفاظ على المعلومات الحيويّة لاستمرار الحياة، وبشكل خاصّ إصلاح الأضرار التي تصيب الهيكليّة الجينيّة، والتي قدَّرها بملايين الأضرار في اليوم. ويقول إنّ تجاربه مع خلايا الخميرة yeast ومع بعض الفئران في المُختبر أَظهرت أنّ بعض المركّبات الكيميائيّة، مثل Dinucleotide Nicotinamide Adenine (NAD)، نجحت عند تناولها في تقوية القدرات الحياتيّة في الخلايا الحيّة، وفي عكس عمليّة الشيخوخة، حيث تجعل أزيمات الأبيجنوم ثابتة أكثر. ومن خلال هذه التجارب بدأ يدرس بشكلٍ أعمق دائرة الأبيجنوم للحفاظ على الحياة وتقويتها.

ويشير في أبحاثه إلى أنّ هنالك أشياء يُمكن القيام بها حاليّاً لضمان استمرار دائرة الحفاظ على الحياة بعملها، وبالتالي إطالة العمر والحيويّة، وأشياء أخرى نتعرّف إليها مع مزيدٍ من التجارب. وربّما أوّل خطوة في هذا المجال إقرار الأوساط الطبيّة والعلميّة بأنّ "الشيخوخة" في ذاتها ليست سبباً للموت، لكنّ تأثيراتها على هَرَمِ الخلايا الحيّة تدفع إلى طغيان أمراض متعدّدة نعتبرها سبباً للموت. وعمليّة الشيخوخة تبدأ مبكّراً في عمر الكائن الحيّ، بل هي تبدأ عند الإنسان في عمر العشرينات وتزداد أكثر مع التقدّم في العمر. فالتغيّرات البيولوجيّة تشمل كلّ الكائنات الحيّة وكذلك البشر.

الكثيرون منّا، عندما يفكّرون بحياةٍ تمتدّ إلى مائة عام أو أكثر، يتساءلون عن الأوجاع والصعوبات الصحيّة والنفسانيّة والعاطفيّة التي ترافق العمر الطويل، وحتّى الاحتمالات المتزايدة للصعوبات العقليّة والفكريّة والاجتماعيّة. لكنّ ما يقوم به خبراء مُعالجة "مرض الشيخوخة" يأخذون بالاعتبار أن يتضمّن علاجهم، ليس الشيخوخة البيولوجيّة فقط، ولكن أيضاً الحفاظ على الصحّة والسلامة الفكريّة والعاطفيّة، وإطالة الحيويّة مع إطالة العمر. وهُم بذلك يبحثون ليس عن الجينات الوراثيّة المتعلّقة بالشيخوخة الجسديّة فقط، ولكنْ أيضاً "الجينات الوراثيّة" المتعلّقة بدوام الحيويّة والصحّة الجسديّة والفكريّة والعاطفيّة.

وفي أبحاثهم عن علاجٍ لمرض الشيخوخة، بَرزت بشكل أساسي العوامل المؤثِّرة على "دائرة الحفاظ على الحياة"، وتبيَّن لهم أنّ تحفيز هذه الدائرة يكمن في كلّ ما قد يتسبّب بالأذى للجسم بشكلٍ محدود ويضغط على مختلف الأعضاء والخلايا فيه، وبالتالي كلّ العوامل التي تستحثّ دائرة الحفاظ على الحياة، حتّى على مستوى الخليّة. وتحفيز عوامل الضعط والإرهاق بشكلٍ مُحتمل يؤدّي مثل هذه المهمّة، تماماً مثل اللّقاحات ضدّ الأمراض المُعدية.

بعض علاجات مرض الشيخوخة

إلى فترة قريبة جدّاً كان كلّ الأطبّاء وخبراء عِلم الحياة يعتبرون الشيخوخة البيولوجيّة قدراً لا مفرّ منه. لكنّ أيّاً من هؤلاء لم يفكّر لماذا نهرم؟، وبالتالي هل بالإمكان معالجة الشيخوخة والهرم؟

ومنذ فترة بعيدة في تاريخ البشريّة فكّر الكثيرون في معالجات وتكنولوجيّات لإطالة العمر والشباب، لكن اليوم يُمكن القول إنّ بعض هذه العلاجات متوافرة لنا حاليّاً، والمزيد منها سيتوفَّر في العقود القليلة المُقبلة. بل إنّه يُمكن أن نبدأ بمُمارسة بعض من هذه العلاجات التي تطال الجينات الوراثيّة للشيخوخة فوراً.

والواقع، إنّ هذا الاختصاص الطبّي والبيولوجي في مُعالجة مرض الشيخوخة، بدأ ينتشر وينشط في العديد من الدول والمُختبرات. وكانت البداية بدراسة بعض الأماكن في العالَم التي يكثر فيها المعمّرون إلى ما بعد المائة عام، والتي سمّيت المناطق الزرقاء blue zones، من ذلك: أوكيناوا في اليابان، ونكويا في كوستاريكا، وسردينيا في إيطاليا.

علاجات مُهمّة

1- قائمة الغذاء

ربّما أوّل ما يتبادر إلى الذّهن ما يُعرف بقائمة الطعام لإطالة العمر Longevity Diet، والتي تتضمّن بشكل أساسي الخضار والبقول والفاكهة والتقليل من اللّحوم والألبان والسكّر. وبالطبع ليس هنالك من قائمة غذاء مثاليّة، لكنّ هذا التوجُّه العامّ هو الأساس في ذلك. يضاف إلى ذلك بالطبع أكل الطعام الطازج وتجنُّب الطعام المعلّب.

2- الصوم

ويحضرني هنا أحاديث عن الرسول (ص) "صوموا تصحّوا"، و"نحن قوم لا نأكل حتّى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع". والفكرة هنا الإقلال من كميّة الطعام بكلّ الصيغ والأشكال والكميّات، وبالطبع من دون أن يعني ذلك سوء التغذية أو الموت جوعاً. فالمقصود هو إبقاء الجسم في حالة الشعور بالحاجة للطعام في حالات وأوقات عديدة، ثمّ عدم الاستجابة الكاملة لمثل هذا الشعور إلّا بمقدار، والتوقُّف عن الطعام قبل الشعور بالشبع، بل مع الشعور أنّك تستطيع أن تأكل المزيد، أي أن نأكل بما يسمح لنا أن نبقى أصحّاء فقط. فمثل هذا "الجوع" يُحرّك "دائرة الحفاظ على الحياة" على مستوى الخليّة وفي الجسم ككلّ، ويوجِّه "جينات إطالة الحياة" لتقوم بما يجب أن تقوم به، وتحفّز الدفاعات على مستوى الخليّة لإبقاء الجسم الحيّ قادراً على الاستمرار في الظروف الصعبة.

وربّ قائل إنّ الجسم الحيّ في مرحلة النموّ يحتاج إلى التغذية المستمرّة. لكنّ هذا يجب أن يتوقّف عند اكتمال النموّ، وعند الإنسان ربّما قبل بلوغ سنّ الأربعين. وليس المطلوب "الصيام" بشكلٍ دائم، ولكنّ الصيام الكامل عن الطعام بشكلٍ متقطّع يكون مفيداً جدّاً في تحفيز جينات إطالة الحياة، فهذا يُحرِّك هرموناتٍ تسمّى عامل النموّ Growth factor، ومستوى هذا الهرمون في الجسم يُظهر أنّه مرتبط بشكلٍ مباشر بإطالة العمر. مع الإشارة إلى أنّ المعمّرين في "المناطق الزرقاء" يقلّلون من وجبات الطعام ويُكثرون من الصيام.

3- السيطرة على الأحماض الأمينيّة Amino Acids

تُبيِّن الدراسات أنّ الطعام المُثقل بالمكوّنات الحيوانيّة يرتبط بشكلٍ عالٍ بأمراض القلب ومخاطر السرطان. والوجبات الصحيّة هي تلك التي تجمع بين أنواع الخضار والبقولات والمغذّيات الغنيّة بالألياف، مع نسبٍ ضئيلة من اللّحوم والأسماك. وعلى الرّغم من أنّ الحوامض الأمينيّة ضروريّة للوظائف الحياتيّة، إلّا أنّ تنوُّع المأكولات النباتيّة يفي بالحاجة لمثل هذه الحوامض، لأنّ النقص المحدود فيها يحفِّز دائرة الحفاظ على الحياة أيضاً، وبالتالي يُسهم في إطالة العمر. ومن المُلاحظ أنّ البشر النباتيّين يعانون أقلّ بشكل ملحوظ من أمراض القلب ومخاطر السرطان.

4- الإجهاد

من المعروف بشكلٍ واسع أنّ التمارين الرياضيّة على أنواعها تُسهم في تحريك الجسم والحفاظ على حيويّته. فهي تحرّك الرئتَيْن والقلب بشكلٍ صحّي. لكنّ هذه التمارين تُحرِّك الوظائف البيولوجيّة على مستوى الخليّة أيضاً.

وهذه التمارين ترفع من مستويات NAD في الجسم وما يسمّى عناصر السيطرة على طول العمر Longevity Regulators، مثل مادّة هرمسين التي تُنظِّم دائرة الحفاظ على الحياة. ويجب أن تُمارس التمارين بشكلٍ منتظم بما يوازي أكثر من ربع ساعة في اليوم الواحد، وبشكلٍ يؤدّي إلى الإجهاد والتعرُّق، وليس النَّوع السهل. فشدّة الإجهاد تُسهم في رفع تأثير هذه التمارين، إذ ترفع من نبضات القلب ومن وتيرة التنفُّس وتحرِّك بالتالي جينات دائرة الحفاظ على الحياة وتطيل من العمر.

وبالطبع، فإنّ الجمْعَ بين التمارين الرياضيّة والإقلال من كميّات الطعام يُسهِم بشكلٍ أفضل في تحفيز دائرة الحفاظ على الحياة وإطالة العمر والحيويّة.

5- على الجبهة الباردة وقضايا أخرى

ومن الوسائل لتحفيز دائرة الحفاظ على الحياة تعريض الجسم لحالاتٍ شديدة من البرودة والحرارة. فهذه الحالات تُحرِّك وتيرة التنفُّس وحركة الدمّ في الجسم. وخلالها تتسارع نبضات القلب أو تنخفض. فالتوازن العضوي في عمل الجسم هو اتّجاهٌ طبيعي في الكائنات الحيّة وكلّ تغيّر في هذا التوازن يُحفِّز دائرة الحفاظ على الحياة. والنقص في الطّاقة بسبب البرد يدفع إلى تخفيض درجة حرارة الجسم؛ ويساعد البرد في تحريك الدهون السمراء. وبالطبع يجب أن يكون التعرّض للبرد الشديد، والحرارة الشديدة لفترة محدودة، لا تؤدّي إلى ضررٍ دائم في الجسم الحيّ، وأن يتكرّر على فترات مُتباعدة نسبيّاً.

وقد اكتشفَ باحثو مرض الشيخوخة أهميّة ما يسمّونه "الدهون السمراء" Brown fats، الغنيّة بموادّ الميتوكوندريا. وكان يُعتقد أنّ هذه الدهون تتوفّر عند الأطفال فقط في مرحلة النموّ. وقد تبيّن أنّها تقلّ مع العمر، لكنّ استمرارها في الجسم الحيّ يُسهم بشكلٍ مباشر في مُكافحة مرض الشيخوخة. لهذا يبحثون عن طُرقٍ لاستحثاث هذه الدهون، بما في ذلك استخدام بعض الأدوية والعقاقير.

والتدخين هو من العادات التي تضرّ بدائرة الحفاظ على الحياة، لأنّها تُسهم في تحطيم الكثير من الخلايا الوراثيّة في هذه الدائرة. ويؤدّي إلى ذلك أيضاً استنشاق غير المدخّنين لدخّان التدخين. ومن ذلك أيضاً استنشاق الهواء الملوّث في المُدن المكتظّة بالسيّارات والمصانع وغيرها من ملوّثات الهواء، وكذلك غبار الموادّ البلاستيكيّة التي كثرت في المدّة الأخيرة لانتشار النفايات البلاستيكيّة وسوء مُعالجتها. يُضاف إلى ذلك استنشاق الموادّ الكيميائيّة المُستخدَمة في مكافحة الحشرات والتعرُّض الطويل لأشعّة س. وغيرها من الإشعاعات، بما في ذلك الأشعّة فوق البنفسجيّة وأشعّة غاما.

مُعالجات أخرى

وقد تبيّن أنّ بعض الأدوية المُستخدَمة في مُعالجة أمراض أخرى، قد تُسهم في مُكافحة مرض الشيخوخة، مثل مركَّب راباميسين rapamycine الذي يُعالِج التهابات الفطريّات في الجسم؛ ومنها بعض المركّبات الطبيعيّة مثل hygroscopiens، ومن هذه العقاقير المتفورمين metformine المُستخدَم في علاج أنواع من السكّري، والذي يُسهم في علاج بعض أنواع الدمنشيا (الخرف). ومن ذلك أيضاً بعض الفيتامينات والمقوّيات. والكثير من هذه المركّبات هي حاليّاً قيد الدراسة العياديّة على بعض المتطوّعين، وستكون في الأسواق في القريب.

إذاً نحن في اتّجاه حياة وحيويّة أطول؛ وستؤدّي البحوث والدراسات في هذا المجال إلى توافر المزيد من العقاقير والمُمارسات التي ستُسهم في إطالة العمر وحيويّته.

*كاتب من لبنان