محطات من واقع عنيد

هاجس التصنيع عند الشعوب و هاجس الاستهلاك عندنا
في "غانا" التي تجري فيها انتخابات ديمقراطية جادة ضَمَّنَ أحدُ المرشحين برنامجَه الانتخابي وَعدا جازما بإقامة مصنع في كل دائرة من الدوائر الانتخابية التي تزيد على المائتين لتحقيق مزيد من التكوين 

و التشغيل و الإنتاج المحلي و الاكتفاء الذاتي و تحويل المواد المحلية.. هاجس يقاسمه إياه يصيغ مختلفة كل المرشحين الآخرين. و أما عندنا فالهاجس استهلاكي محض لما يصنعه الآخرون بجهودهم الذاتية و ذكائهم و حبهم القوة و المنعة لأوطانهم؛ استهلاك تنهب له الأموال العمومية بلا رحمة و لا خجل و تضيع المقدرات بيعا للأجنبي بلا وخز للضمائر و لا مراعاة للمستقبل.. إننا شعب بالغ السذاجة و نحسب
أنفسنا الأذكياء الألمعيين و غريب الاطوار و عديم الوطنية و نشرب نخب الشعر الجاهلي على مائدة "السيبة" المقيتة. إن حاضرنا يتسم بالتخلف الصارخ و لا نبالي، و مستقبلنا قاتم تلفه مخاطر تفرقة و تشتت لا نكاد نحسها و قد أظلنا مع كل ذلك زمانُها، و روح الاستشراف و التدارك غائبة في معجم سياسيينا المتناحرين على خواء البرامج و ضعف الخطاب و شهوة السلطة للتسلط على الرقاب لا تشييد البلاد، و عن ذهن مثقفينا إن كانوا كذلك رعاة نرجسية يستحي من شكلها "نرجس" نفسه لو رآها و استعلائية يلفها غموض المعارف و ضعف الأداء.. و بين كل ذلك يموت الوطن بلا دعائم صناعية و معرفية تنجيه من أهوال الأفول.
هل نحن إلا ما كنا؟
لا شك أننا مازلنا نحمل من جاهلية "السيبة" ما يقيدنا عن المدنية و رقة تعاملها و التحضر و سمو أفعاله و نضج لغته التخاطبية و رقتها. و ليس الوقوف على ذلك و التأكد منه بالعملية الصعبة و لا العملية التحليلية الشاقة. فعلاوة على الترفع الأرعن عن العمل الذي يتطلب أقل جهد حتى و العزوف عن غير الدراعة إلى لأبهة المكاتب و تضخم الأنا في الأحاديث و حب الاسترخاء و رواية الأساطير و شعر المديح و الهجاء و كاذب الغزل من كثرة الطلاق و التفكك الأسري، و النفاق و الغدر و الحربائية التي تعطل المسار السياسي و تخلق الأزمات السلبية على غير ما خلفية البرامج التنموية و الإصلاحية و الارشادية الغائبة عن الاذهان و المعطلة بفعل قصر النفس الوطني و جهل وسائل وضع هذه البرامج و حبكها و تمريرها و الدعوة إليها و الإقناع بجدوائيتها و قابلية تحقيها، و ما كل هذا إذا إلا من أوجه هذه الحقيقة المرة؛ نفاق و غدر و حربائية كذلك على خلفية الكبر و الادعائية و الاستعلائية التي أبقت العقلية على ما كانت عليه منذ ما قبل الدولة المركزية في إبقاء الظلم تحت كل جناح يرفرف إلى الشر كلما نبت و اشتد له ريش و نشف .. حقيقة و واقع و إن توهمنا أننا نستطيع تغطيتهما إلا أن آثارهما أوضح من ضوء الشمس و وطأهما أشد على النفوس من الحسام المهند. و ليس ما يعاني منه سكان البلد - من التباين الشديد بين القلة المتخمة من المال العام و هيمنتها على الحياة الاقتصادية و الغالبية الفقيرة التي تتحرك في بؤرة من التخلف لا تخطئها العين و المحرومة حتى من أن تتشكل منها طبقة وسطى - إلا تجسيدا صارخا لهذا الظلم الذي لم يتوقف يوما منذ زمن سحيق.
هل يسعى الصحفيون حقا إلى المهنية؟
رغم مستواي المتواضع في الإنكليزية تابعت منذ يومين باهتمام و إعجاب فيلما وثائقيا صورت تفاصيله بكاميرا هاتف مخفي بطريقة غاية في الذكاء لم تنقصها مع ذلك الحرفية الفنية و لا المهنية الإعلامية لأستبين بسرعة مدى شجاعة الصحفية من قناة سباقة و التي كانت تلتقط بصرامة عالية و حرص شديد على دقة التصوير المشاهد الناطقة بما ذهبت إليه في الوثائقي تحت و طأة رغبة "التنوير" في دائرة "المغامرة" الجريئة لتحقيق "السبق" الصحفي. و لما كان الأمر يتعلق بتسليط الضوء على كيفية سير الحياة في إحدى الدول الآسيوية ذات الحكم الأحادي و تحديدا في تعامله مع مواطنيه من السجناء في ورش البلد الكبرى و لتسليط الضوء كذلك على جوانب أخرى تظهر من خلالها بعض الاختلال و المفارقات الكبرى التي يعانيها البلد و مواطنوه. و لقد كانت صور الوثائقي الملتقطة في كل أرجاء البلاد و من شتى جوانب الحياة مصحوبة بنص بسيط بديع جامع مانع لا يبدو فيه تكلف و لا شطط ما جعلني أفهمه و أتفاعل مع الموضوع. و بالطبع لم تغفل الصحفية التي كانت تتقمص أحيانا شخصية سائحة أهمية المقابلات كلما كانت تجد إلى ذلك فرصة سانحة. قلت متى يستطيع مهنيو إعلامنا التخلص من التكلف و التقعر اللغوي و الشعرية المفرطة في تصوير الجمود، على أنه جمال خالد و ما هو كذلك، و يذهبوا في تحقيقاتهم و تغطياتهم إلى لب الموضوع؟ و متى يحسنوا انتقاء هذه المواضيع التي تستحق تغطية ونشرا؟ ثم متى لا يربطون عملهم الذي له طابع الاستعجالية في السبق و الأهمية بالوسائل الكبيرة و العصر عصر التقنيات الدقيقة و الخفيفة السهلة الاستخدام؟ فكم مواضيع يجدر التطرق إليها و تسليط الضوء على جوانبها ليحصل الوعي بها و يفرض التوجه إلى معالجتها؟ لا شك أنها من الكثرة و الأهمية ما يستطيع من خلالها الاعلام أن ينتعش و يزهر و يلعب دوره كاملا في الاخبار و التنوير.
متى يعتمد أهل القطاعات نقد ذواتهم؟
على شاشة التلفزيون الرسمي لجمهورية ساحل العاج شاهدت، باندهاش و تعجب خالطهما إعجاب فرض نفسه، وزراءَ في الحكومة ينتقدون أداءهم و ما يقفون عليه من الاختلالات و النواقص التي تعتري أوضاع بلدهم و يعترفون صراحة بمراحل التأخر التي ما زال يشكوها و يعاني منها من دون تحرج و وجل و لا تملق. ثم إذا بي أراهم و أسمعهم يعلنون بأمانة و شجاعة أن البنى التحتية في البلد لا تخوله الاصطفاف إلى جانب الدول التي حققت في القارة تقدما ملموسا في هذا المجال و سواه، و أنه لا بد للسياسات و البرامج المقبلة أن تراعي هذا التأخر و أن تدرس و تحدد أسبابه و حيثياته و تقدم مقتراحات حلول عملية مبنية على المعاينة و متسمة بالمنطقية و كل الاعتبارات الضرورية الأخرى التي لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها أو التقليل من شأنها. و سمعتهم بمنتهي الوعي و الحرفية و الوطنية يصرحون خلال المقابلات الإعلامية و الاجتماعات الفنية الارشادية و التوجيهية أنه يجب أن يشرف على إعداد الدراسات الفنية في المرحلة الموالية خبراء يتم تعيينهم على أسس الكفاءة و الوطنية و من بعد ذلك تكليف الحرفيين و المتخصصين لمباشرة الإنجاز حتى قيامه بالأداء. أيقنت أن الذي أراه يتحقق باضطراد في بعض الدول و منها ساحل العاج في مجال البنى التحتية من طرق و سكك حديد و ورش تنموية كبيرة و كهربة و ماء و ري و زراعة و عمران و تصنيع و تحويل و قفزة تعليمية نوعية و اتساع الغطاء الصحي لا يمكن إلا أن يكون نتيجة مثل هذا النقد من قبل المسؤولين الأول على رأس قطاعاتهم و تصحيح الأخطاء بما تورد الملاحظات الغير مجاملة من ضرورة التصويب. فهل يمسك المختصون عندنا من ذوي ملكة النقد و دقة الملاحظة و القدرة على تقديم مقترحات التصحيح و القدرة على متابعتها؟ و هل يبتعدون بكفاءاتهم عن الكراسي الوثيرة لحظات العمل الميداني و يؤثرون الملاحظة على الميدان و تقديم النصح و الارشاد إلى التصحيح؟ و هل يؤثرون قيام البنى التحتية بمعايير علمية على الإختلاس من الاغلفة المالية و التواطؤ مع المكلفين بالإنجاز مقابل ضعف الأداء؟
خطابة بناة و خرس عتاة
و أنا أتابع رئيس الوزراء الفرنسي المستقيل "مانوال فالس" و هو يعلن عن الترشيح لرئاسة الجمهورية في كلمة مذهلة جاءت منسابة على لسانه بارتجالية المتمكن و حصافة السياسي المخضرم و عمق المثقف المتنور، كنت أندب عجز سياسيينا عن حبك خطاب و لو مكتوب و توصيل محتوى من خلال كلمة تسمع و تفهم. و أنا أتابع أيضا فحوى تبرير قرار الترشح المفعم بروح الوطنية العالية و المدعوم بالإحاطة التامة بمفهوم الدولة و بالدراية بتطلعات الشعب الفرنسي و بالوعي و الادراك بتحديات العصر التي تواجه فرنسا و تهدد مكانتها و إشعاعها و تحاصر اقتصادها و تضعف حضورها و دورها على المستوى الدولي، كنت أندب حظ سياسيينا الأجلاف الذين لا علم لهم بفن الخطابة و لا إحاطة بالهم الوطني و لا إلمام بحضيض الواقع القائم منذ نشأة الدولة و لا بالحاجة إلى مجرد الانطلاق إلى دائرة تصحيحه و التوجه إلى معالجته.
غياب النخب الفاترة عن صنع الأحداث
في دولة السنغال المجاورة همة السياسيين و المثقفين و الاقتصاديين و الصناعيين و الفنانين متقدة، ناضجة و عالية إلى حد لا تكاد قاعات المؤتمرات و صالات العروض و فضاءات المعارض تخلوا شهرا إن لم يكن أسبوعا من تنظيم تظاهرات قارية، إقلامية و دولية متخصصة و ذات شأن عام. ديناميكية ترفع و تذيع صيت البلاد أكثر و تجلب اهتمام المنظمات العالمية و المستثمرين و الممولين إلى أرض "السينغال" التي تبدو ورشا متحركة يستفيد منها البلد في نهضته و سكانه في معاشهم و ينهل السياسيون و المثقفون و الفنانون من تجارب العالم المستقدمة إليه بقوة و إرادة الإقناع. حقيقة بدأت تقدرها مؤسسات و حكومات و شعوب العالم حتى بات السنغال مضرب الأمثال و قبلة المثقفين و السياسيين و المستثمرين و السياح و السينمائيين و الملهمين في كل دروب الفن و الأدب. و في هذه الأيام بالذات يفتتح الرئيس ماكي صال ملتقى قاريا تحضره جهات و أطراف دولية حول الأمن و الهجرة في القارة. و ليست هذه التظاهرات الدولية الصحية التي ترفع من شأن البلدان و توسع تجاربهم و تدفعهم إلى المنافسة و الأخذ و الأطعاء بالمسألة الصعبة أو السحرية.. بل إنها مسألة نضج النخب و حركيتها و إرادة الانفتاح عندها و التبادل.. فإن نضجت عند أفرادها إرادة التحول و صحب تلك الإرادة نفض لغبار الكسل و الرجعية الفكرية و الكسل الذهني و العملي المضمخة جميعها بمساوئ عقليات الماضي المتحجر و مسلكيات "السيبة" المدمرة فإن الوصول إلى خط الاحتكاك بمدارج التحول البناء إلى المدنية الحقة و التحضر المشرق لن يكون إلا مسألة وقت.. فهل تخرخ "النخب" الفاترة من قمقم الإساءة إلى البلد و تعريضه للزوال و تقوم بدورها المتمثل في صنع الأحداث كل في مجاله و تخصصه إن كان حقا ثمة ذلك؟
المقاومة بين معاناة المزايدة و المعاداة
يفاخر البعض المتحيز نسبا و شرائحيا لـ"لمقاومة" دون أن يمتلك لها طابعا وطنيا و مرجعا تاريخيا مكتوبا و محفورا في واقع الذاكرة الجمعية، و ينابزها أو ينكر وجودها البعض الآخر من منطلق إحساس شرائحي بالنقص و الغياب و لا يمتلك لذلك بدوره من الوسائل إلا ردة الفعل اللفظية التي لا سياق لها سوى الرفض في الذاكرة. و أما القسم الأول فأفرز "باعة" انتفاعيين لتاريخ مرتبك و مضمخ بالمجاملة المفرطة و البعد عن البعد العلمية و البحث الجاد الذي يمحص الأحداث و يقننها ليحصد المال من السذج المتعطشين إلى صنع تاريخ لذويهم صدقا و اختلاقا بكل ما أوتوا من جهد معرفي و مادي من دون الوطن و أهله. و أما المعادين المناهضين فهدفهم نسف الماضي الذي أهان أجدادهم ظلما و الإيهام شططا و إجحافا بأنه لم تسطر يوما فقرة مشرقة في كتاب تاريخ البلاد. متى يصطلح التياران على أقل ضروري لأقل موقف توافقي حول قيمة تاريخية للبلد في غياب أي مرجع مادي أو معنوي يسكت عليه.
معركة أوسترليتز هي معركة تعد من أهم المعارك التي دارت في قارة أوروبا والمعروفة أيضا باسم معركة الأباطرة الثلاثة، وكانت أحد أهم النزاعات الحاسمة في الحروب النابليونية و قد وقعت في 2 ديسمبر 1805 بين قوات التحالف وهي الإمبراطورية الروسية بقيادة القيصر الروسي الكسندر الاول و الإمبراطورية الروانية المقدسة بقيادة الإمبراطور فرانسيس الثاني من جانب ومن الجانب الآخر الامربراطورية الفرنسية بقيادة الإمبراطور نابليون بونابرت انتهت المعركة بانتصار حاسم للفرنسيين .و نابليون ملك للتاريخ و المجد الفرنسي لا أحد يزايد به على أحد و هذه المعركة التي انتصر فيها لا تروى بالأحاسيس المتناقضة و إنما تعاد تمثيلا حيا مصورا كلما طلبت الذاكرة الجمعية الفرنسية ذلك.فهل نسلك الطريق الصحيح؟
الصناعة الرقمية و المعرفية
و إذ نحن لا نقوى على صنع علبة كبريت أو قرص دواء أو نعل أو إناء طعام أو حصير أو قماش أو علبة سردين أو قطعة صابون أو دفاتر أو طباشير أو أقل آو أكثر من ذلك فإن رجال "مالنا" و "جاهنا" يحتفظون في البنوك المحلية و الخارجية و في البيوت و المحلات التجارية عشرات الملايير من الأوقية و مثلها من العملة الصعبة بدء بالدولار و اليورو و الين إلى الريال و يوان الصيني و الروبل الروسي و الروبية الهندية و غيرها يشمون رائحتها و يملؤون عيونهم من رؤيتها، فإن العالم أصبح يتحرك في سياق الصناعات الرقمية و المعرفية الحديثة يدعمون من خلالها بشدة و يضفون السرعة و الدقة على القوة الصناعية الثابتة التي امتلكوا ناصيتها و خلقوا بها الرفاه لشعوبها و دعموا و عززوا و نشروا العدالة بين أفرادها. و بالطبع فإن الأدهى و الأمر من ذلك هو أن شعوب كل الدول المحيطة بالبلد وعت هذه الحقيقة و شمرت عن السواعد لمصاحبة هذا التيار باتجاه المستقبل فيما لا حراك عندنا إلا باتجاه الجمود على قيم الفساد و النهب و حكم أمراض القلوب المنتمية إلى عصر وعقلية "سيبة" الماضي الحاضر العصي على التغيير.
تمييع التراث و تدمير الميراث على أيدي قلة سافرة
عجيب امر تلك الإرادة، المبتورة من القيمة التاريخية، الساعية بنجاح محير إلى اختزال التراث بقيمته الجليلة ضمن أوجه لا قراءة لها في الأثر "المحسوس" و لا تأويل في المضمون الحضاري "الملموس"؛ أوجه تجد تعبيراتها "الادعائية" المجحفة في أنشطة "هلامية" مبتدعة لا تنطق بعمق روح التراث المشكل "النواة" الحية للتاريخ و قيمته المرتبطة ضمن الهوية بالخصوصيات و الملامح و المميزات. و هي الإرادة المغالطة بفعل "الجرأة و الجسارة" الخاطئتين على الوطن بأيدي جماعات لم تفوت فرصة ضعف عود الدولة منذ التأسيس الذي أطرته "الكيكوطية" و صيحات "حيماسو" بالرعاية منذ البداية من إرادات واهنة لم تستشعر يوما "الحس الوطني"، و نخب مبتدعة و مختلة و ممسوخا جزئيا ثقافيا و سياسيا جعلت الوطن منذ اللحظة الأولى مدرج إقلاع إلى جديد المادة المكتشف بلا غيرة على التاريخ و الهوية و الخصوصية و لا حمية و حفاظ على التراث القيم.
إذ كيف ترانا نتجاوز في مجمل تراثنا الذي من المفروض أن نفاخر منه بـ"الفروسيةَ" في الفعل الرفيع و الخلق القويم و الشجاعة عند الإقتضاء و الأدبية في كل موقف و نقف عند "اختلاقات" من عقلية ضيقة متحجرة لاحتيال و ترسيخ نبذ لثمين اعتماد الغث.
فهل عُرفتنا، بعيدا عن الأسطورية و النزعة الملمحمية، نَصنع يوما البنادق السريعة الطلقات و البعيدة المدى حتى تتسنت بها "رماية محلية" بقواعد و آداب و أساليب و روح و خصوصية شكلت محل استكشاف الآخرين لنا من خلال تمييز تولد و أمكن به التعرف علينا؟
و هل مخطوطاتنا على أهميتها في تشكل الهوية و حيازة مستند لبعض التعريف الحضاري بنا إلا حلقة من ثراثا و جزء من تاريخنا؟ و لأن الأمر طضلك فلماذا يهيمن عليها البعض و يقتاة عليها؟ و هل المقاومة الوطنية هي كذلك إلا تراثا مجيدا يجب أن يكون ملكا للجميع و ليس كما هو حالها اليوم قناة رخيصة للتزلف و الربحية و معولا لدق إسفين الوحدة الزطنية بما تؤتى من قراءات مشخصنة و مبتورة من سجل تاريخ الوطن المسترك؟
مواكب مهيبة و أخرى كئيبة
في كل محطات الزيارة "الآدرارية" أيام الاستقلال كان غياب شريحة "لحراطين" و ربما معا الشرائح الدونية الأخرى شبه تام و كأنها تلاشت من على أرض آدرار و وديانه التي يحيي كل أفرادها واحات نخيلها و يسقي حرثها و يعتني بفسيلها حتى يشتد عوده و ينضج بلحه و يحلو تمره. إنه غياب عن الصفوف المستقبلة لرئيس الجمهورية و عن الاجتماعات الحوارية مع الأطر و العامة. هل هوغياب مريب و احتجاجي بـ"الغياب" و "الصمت" متعمد أم الغياب النتيجة الحتمية لإرادة "التغييب" المعتمدة من طرف الأسياد "القدامى/ الجدد" و المالكين الاقطاعيين للأرض و الحرث و الومجهين النسل إلى نهج ذات نفس المسار المطبوع بقانون "السيبة"؟
و لو أن المحتفين القادمين في السيارات الرباعية الدفع الفارهة المستقدمة من نواكشوط و نواذيب و البنادق السريعة الطلق المرخصة لهم دون غيرهم يمرحون بها و يلهون بعد الشبع و للتسلية و التباهي بالقوة هم القلة من مفسدي المال العام و مبذري خيرات البلاد من إقطاعيي "الوديان" و أسياج "المدن" و المتحكمين في "قنوات هدر المال العام" و قد انتظموا و حواشيهم و أتباعهم في مواكب فاخرة تتعارض من فقر الواقع و بعده عن التحضر، إلا أن الساكنة المخلصة للمناسبة عيد الأستقلال و المقدرة للسلطة الحاكمة و من على رأسها خرجت في أزيائها المتواضعة و ألوانها الباهتة لتقدم على شكل رسائل لرئيس الجمهورية و في لحظة تحسبها استثنائية شكاويها و تظلماتها و غبنها و عزلتها و تهميشها عسى تجد أدنى صدى لا يرده حجاب الظلمة من إقطاعي التراتبية و المال و النفوذ و أرباب التزلف و النفاق.
متى نصلح ما بأنفسنا؟
لا شك أن العقلية "السائبة" "المسيبة" و "التسيبية" إن جاز التعبير هكذا قصد الإمعان في التوضيح، هي التي لا تترك بتجلياتها المجحفة ـ في تناقض مثيرـ لأهل الدين الخالص من علماء أتقياء و ناصحين أجلاء و مرشدين مستقيمين و معلمين أكفاء و "عاضين" عليه بالنواجذ ـ مساحة من المنعة و منبرا مرتفعا لا يعتليه سواهم و لا يجادلهم فيه أحد من ناحية، و لا للمكلفين بالسهر على صيانة الحياض الإيمانية من الدنس اللفظي أو الفعلي الصادر من متطاول مغرور أو متجاسر زنديق أو مرتد ملعون و إمساك أمره بأيديهم و تطبيق الحدود الشرعية عليه بلا تردد أو إصغاء أو دخول في متاهات المرجفين و الأعداء المتربصين. و لا شك أيضا أن أمر "سلطوية" هذه العقلية الفاسدة المستشرية دون رادع و تترجمها على مر الأيام كل حالات "الارتكاس" الجارية في المعاملات على خلفية "الشرائحية" البغيضة و "الطبقية" الظالمة و "التمتع" بالمال العام من دون المساءلة و المعاقبة، و اختلال مسار الدولة من جراء عزوف شرائح عريضة عن العمل و الإنتاج "تأففا" و بيدها مع ذلك أرزاق "المستضعفين"؛ شرائح "فالتة" من العقاب و التأديب بحكم القواعد "التراتيبية المجتمعية" الموروثة عن ماضي (حاضر) بعناد مقاصدِه المجحفة و المفترية على الدين و قيمه العادلة. إنها الدولة المعاقة بذالك و من حيث لم يُرد لهذا الواقع السقيم الماثل منذ الاستقلال و القائم "مقام الدولة" في مفهوم سلطتها أن يُكشف و يُحارب أهل حكمه و يعزروا و يستتابوا و يدفعوا ثمن ما اقترفوا إحقاقا للحق و تصليحا للأحوال ـ و هي الدولة لا تستطيع القيام مطلقا في ظل غياب أسس العدالة التي هي أساس حكم البلاد و العباد. فمتى نراجع أحوالنا المتناقضة مع روح الدين العادل السمح و نغير ما بأنفسنا و نسد الأبواب أمام أعدائه المتربصين و الذين يركبون أمواج تعارض ذواتنا مع استقامة ديننا القيم و أن تمثل رسالته الخالدة في أخلاقنا و أعمالنا و نصاعة واجهة كياننا المغبرة بفعل سيئات تناقضنا؟
رفض النخب التعاطي مع وسائل التغيير
في دول السينغال و مالي و تونس و الجزائر و المغرب و غيرها من دول القارة يتم منذ أمد إنتاج أفلام سينمائية و وثائقية تصور بمنتهى حرية الرأي و أعلى مستويات الفكر و تعالج ما تشاء ان تعالج من القضايا الكبرى و المسائل الدقيقة كالقضايا الحساسة المتعلقة بوزراء فاسدين و مسيرين مختلسين و أصحاب قرار مبذرين أو رؤساء على مستوى من الضعف يعيق المهمة أو من الشطط يهده البلد في توازناته الكبرى. إنه الفن السابع، الرفيع بمستواه الفني العالي الجودة و قدرة و وعي و حرفية ممثليه المبهرة، يسلط الضوء على مسارات الأمم و ينير الدروب بالمعالجات الواعية الرصينة و يرسم خطى مستقبلها باستشراف كارتيزي أو بالأحرى منطقي و استغلال معطيات الحاضر بأتم وعي و احسن استحضار و أبلغ استنطاق للمعطيات القائمة. و هي الأفلام التي حملت إلى الشاشات الكبرى قبل الصغرى إرادة التغيير و التحول عند الشعوب؛ إرادة دافعها الوعي و سلاحها رفض أمر التخلف القاسي و مطباته و عوائقه و المعالجة عبر التمثيل و النشر بالتصوير. و المتتبع لأحوال هذه الأمم التي التقطت أهمية هذا الفن الرفيع من بعد المسرح الذي تهتم به كذلك، لا بد أن يلاحظ تجاوز شعوب هذه الدول نهائيا للمفاهيم الاجتماعية التقليدية المنتمية إلى عصور ولت و تعلق لافت بالقيم الحديثة و توطيد مفهوم الدولة لصالح التطور الفكري و دفع عجلة التنمية. و لكن هذا الفن الرفيع و الوسيلة الإعلامية المثلى لا يجد محتضنا و اهتماما يحث على القيام بانتاج و فرز المعالجات على شكل سيناريوهات قالبة للترجمة إلى إنتاج مرئي و مسموع، مما يضعف حراك العدد القليل من الأفراد الذين يهتمون بذلك و يعملون المستحيل لتخطي مرحلة الإثبات الخجول في هذه البلاد و الذي ما زال مقيدا بأصفاد العقليات الظلامية القرون وسطوية، و ارتكاس "النخب" الفكري، و حكم نضوب الإبداع، و الكسل الذهني و البدني، و تقاعسها عن دائرة الإنتاج و روح المبادرة. و بالطبع فإن انعكاس هذه الوضعية على حالة تخلف البلد و بعده – بفعل عقلية الشعب العصية على التحول و النخب الثقافية و الفكرية و السياسية المتخاذلة عن دفع مسار التغيير إلى الأمام - لا تدع الشك مطلقا في استمرار حالة التخلف القائمة عن ركب الأمم.
ويح جيل الغد "المعاق" من جيل الحاضر "الهزيل"
صحيح أن الإرادة هي سر النجاح و النجاح غاية الوجود، كما هو مؤكد أن أمة لا يمتلك أبناؤها إرادة لا يمكن توقع النجاح لها و إن تسترت وراء السراب من بعيد، لأن سفر الشمس إلى المغيب يكشف زيف السراب و يقتل حتما من الظمأ. و أما واقع هذه البلاد الساري على نسق هدوء البراكين الحية النائمة فإنه للمتمعن عن كثب لا يخفي حجم الزيف، المكتف وجودها منذ الاستقلال عن مرحلة "السيبة" الرابضة في صمت المتمكن، و الشبه الكبير بألاعيب السراب حيث ترى أمواج المحاكاة للعوالم من حوله تتراقص على صفحة الواقع الجامد عند القواعد، المتخلف عند التأويل، و العاطل عن الحراك عند استنطاق مجريات الأمور، محاكاة كلها زيف و احتيال و مكر و مغالطة لمن يراعي النظر بتجرد إلى حقيقة الأمور. و بالطبع فإن النتائج لا تبقى محجوبة طويلا حيث المشهد مرآة حية و صادقة تعكس ما يتراءى على صفحتها. و موريتانيا لا تمتلك على أرض البناء و التشييد و التخطيط و التسيير أي مقوم قائم في هذا المعترك. فبعد ست و خمسين عاما من الاستقلال لا وجود لبنى تحتية تغني و تسمن من جوع و لا كوادر و أطر و مخططين يرسمون ملامح المستقبل من خلال حراك الحاضر، و لا مراكز توجيهية لسياسات بناء أركان البلد و تحفيز ساكنته على العمل و العطاء. و أما العقلية السياسية القائمة فانتهازية بدائية همها نفعي لا يتجاوز "أنا و من بعدي الطوفان" لا خطاب و لا فلسفة و لا برامج لأهلها على خلفية ما يتصفون به من الخواء الفكري و غياب الوازع الوطني و ضعف الباعث الديني بالنتيجية الحتمية. و أما الشباب فأضيع من "الأيتام على مأدبة اللئام" و قد رُوِّضَ على المحاكاة عند سن النضج البدني و "الشبق" المادي، ادركته مساوئ الطفرة العنكبوتية بمواقعها و شبكات تواصلها الاجتماعية لتغرقه في ترف الأقوياء الذين تجاوزوا حبائل التخلف و لتبعده من ثم عن الميدان الذي يحتاج كل جهد ممكن. و أما تحصين البلد من مزالق غياب الوعي بإملاءات العصر و اشتراطاته لغايات لتوازن و النجاة المفروضة فحدث عن "الغياب" الصارخ و ارصد أهوالا تُغمض عنها الأعين و تُصم الآذان و لن تقف عند حد لشدة ما يعرضه المشهد من مكامن الأخطار في النزعات الانفصالية المُضمرة و الحقوقية المُفرطة و الاحتجاجية على الظلم الطبقي و الفجوة الغير مبررة بين الأغنياء من المفسدين باعة خيرات الوطن بدريهمات و الفقراء من المهمشين و المنتبوذين المهملين لنوائب الدهر و التخلف. إنهم "أحياء" الحاضر السقيم من يُورث خرابا حتميا لجيل ولد "معاقا".
الملحمية و الأسطورية و فيض الكرامات عوائق في وجه العصرنة
أمة تحيط بها الأخطار من كل جانب و هي في سكر الماضوية البالية تترنح و كأن العالم من حولها خواء و عقارب الزمن واقفة لا حراك بها.
لا يمكن أن تغيب عنك هذه الحقيقة المرة عندما تصطادك حبائلُ "جماعة شاي" في كل فضاء يفترض أنه للعمل و الإنتاج و داخل المكاتب التي لا تخلو منها و تشدك دورة المحادثات المبتورة من هموم الحاضر المتخلف و تحدياته الخطيرة في حل من العمل و الجهد، ليصيبك بعض بلل من ماء الأحاديث قبل أن تحملك أمواج بحره العاتية من الأوضاع المبصومة كرها بالواقعية المريرة إلى الاستسلام للتحليق في فضاءات العجب و أوهام السكر من تضخم الذات، فإنك لا بد أن تُذعِن لحكم الإحساس المدغدغ العميق و تُحس من بعد - إن لم تكن سليلَ الحواشي و الهوامش من "لمعلمين و آزناكة و لحراطين و إيكاون" ـ أنك المعني حتما بقصص الفروسية الطافحة في عجاج معترك الحِمى و بقرقعة السيوف و صهيل الخيول و رغاء الجمال و صوت الحابل مختلطا بصوت النابل و رائحة البارود و بأهازيج الشجاعة تملأ الآذان و تبث الحماس؛ أو الفتوحات العلمية الباهرة التي انتشلت المشرقَ و أبعد بالعلم حين لم يبق له صدى و المعارف وقت اندثرت و قوة تجديدهما و دقة اجتهاداتهما من غياباتِ الجهل الحالك الذي لفه و اللغة الفصحى من ترديها بعدما دب و انتشر انعقاد اللسان الاعجمي في أوصالها، حتى لتحس من النشوة البالغة بذاك أن رقاب كل أهل ديار الإسلام دانت لنا و أن الضلالة بنا انكدرت و حل الهدى أنوارا على العالمين بفضلنا و أن الألسن انطلقت بفصاحة "الضاض" بعد نير الأعجمية؛ أو الكرامات التي تحمينا كالستار الواقي إعجازا من الجهد و الكد و العمل. ملحمية و خرافية و ميتافيزقية عليا لو حشرت بعيدا عن حقل العمل و الإنتاج و البناء لوجدتْ بعض صدى أو قبول في السياقات الثقافية المتعددة الأخرى ضمن زماكانها و داخل حياضها و فضاءاتها و لحسبت إثراء و إضافة. و لكن بما تؤتى و كيفما تؤتى فإنها عوائق و كوابح تزيد حالة التأخر تأزما و حالة الضياع تفاقما و تزيد الشروخ اتساعا و اختيارَ الأسوأ توجها دائما. فهل ننتبه و نعدل البوصلة قبل فوات الأوان و نحظر "مجالس الشاي" المشحونة بنواقض العمل و الإنتاج و الابداع و البناء؟