التحركات الموريتانية على الحدود المالية: رسائل تحت نيران التحدي المتصاعد

​تجد العلاقات الموريتانية-المالية والوضع الأمني على الحدود المشتركة نفسها اليوم في منعطف بالغ الخطورة، تتشابك فيه خيوط التدهور الأمني المتسارع في مالي وتعاظم نفوذ الجماعات المتطرفة المسلحة، مع التوتر المتزايد بين نواكشوط وباماكو. بدأ هذا التوتر بالاحتدام على خلفية حوادث متكررة لاستهداف الرعاة واختراق الحدود من قبل أطراف تنشط في العمق المالي، لا سيما مع تنامي الدور الروسي ومرتزقة "فاغنر" الداعمين للجيش المالي.
​إن الأوضاع في مالي، التي ازدادت تدهوراً وتعقيداً بعد انسحاب القوات الغربية وتوجه باماكو نحو موسكو، خلقت فراغاً أمنياً هائلاً. هذا الفراغ استغلته الجماعات الإرهابية، كجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، لتعطيل الطرق الرئيسية وإحكام سيطرتها على مناطق واسعة، مما شكّل تهديداً مباشراً لأمن موريتانيا على طول حدودها الشاسعة (أكثر من 2200 كيلومتر)، ووضعها في صميم الأزمة الإقليمية. وقد تفاقم التحدي المزدوج الذي تواجهه موريتانيا - والمتمثل في الفوضى الأمنية الداخلية في مالي وتصاعد المتطرفين، والتوتر السياسي مع الحكومة المالية الانتقالية - عندما أدى إلى إغلاق الحدود مؤخراً من الجانب المالي، مما ضاعف الأزمة الإنسانية والاقتصادية على الشريط الحدودي.
​رداً على هذا التدهور المتسلسل، شهدت الساحة الموريتانية تصعيداً مدروساً في الاستجابة العسكرية والسياسية، تجسّد في سلسلة من التحركات الحاسمة:
​المناورة العسكرية الردعية (مايو 2024): كانت المناورة بالذخيرة الحية التي أجراها الجيش الموريتاني في المنطقة الشرقية المحاذية للحدود مطلع مايو 2024 بمثابة أول إعلان صريح عن عسكرة الرد، حيث اختبرت جاهزية القوات والعتاد الحديث، وأكدت فعلياً على قدرة الردع الموريتانية أمام أي اختراق جديد.
​زيارة الرئيس الاستراتيجية (نوفمبر الجاري): تلا ذلك التحرك الأمني اللافت، حيث قام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بزيارته التفقدية للمنطقة الحدودية والمدن الداخلية الشرقية، والتي تستغرق أسبوعاً حتى 15 نوفمبر الجاري. هذه الزيارة تمثل دلالة استراتيجية خاصة؛ فالقائد الأعلى للقوات المسلحة يتواجد بنفسه على خط المواجهة، مما يضفي وزناً رمزياً وسياسياً على الإجراءات الأمنية ويؤكد أن تأمين الحدود هو الأولوية القصوى للدولة.
​الاستعراض العسكري المرتقب: يكتمل المشهد بالاستعراض العسكري المرتقب بمناسبة الذكرى الخامسة والستين للاستقلال، والذي يُعد تتويجاً لرسالة الجهوزية والردع الشاملة.
​هذه التحركات مجتمعة تشكل مناورة عسكرية ودبلوماسية عالية المستوى تحمل في طياتها رسائل حاسمة:
​للداخل الموريتاني: تأكيد يقظة وجاهزية القوات المسلحة للدفاع عن السيادة الوطنية والمواطنين "مهما كانت التكلفة"، ومحاولة لرفع معنويات سكان المناطق الحدودية بعد حوادث الاستهداف الأخيرة.
​لدولة الجوار المالي: إظهار القوة العسكرية الردعية الجديدة للمؤسسة العسكرية الموريتانية (بما في ذلك الطائرات المسيرة)، وتأكيد لنظام الجنرال هاشمي غيويتا أن نواكشوط لن تتهاون في حماية حدودها بالقوة، وأن أي توغل سيُقابل برد صارم وغير مسبوق.
​للمجتمع الدولي: إبراز دور موريتانيا كـ "عنصر حيوي" لاستقرار المنطقة، وقدرتها على ضبط حدودها ومكافحة الإرهاب، في ظل انهيار المنظومة الأمنية الإقليمية.
​إن تزامن هذا الحراك الموريتاني الحازم مع تحركات الرئيس المالي الانتقالي يكشف عن مرحلة جديدة من التوتر تتطلب تنسيقاً أمنياً وحواراً عاجلاً لتفادي أي انزلاق غير محسوب، يمكن أن تستغله الجماعات المتطرفة لزيادة زعزعة استقرار البلدين.
​ محمد علوش القلقمي