هرتقة نفمبرية: بلون البرتقال و طعم ال Espresso

فى غمرة تحضير بعض المرضى المحتاجين لحملة جراحية مجانية ، رن الحليف المحمول ……،الهاتف أكثر من مرة ، كان الرقم مخفياً ، …… كنت أتوجس خيفة من مثل تلك الارقام …. على الطرف الآخر صوت حماسي:
-البطرون ذهو هون ……بامكانك الحضور .
كنت احاول لملمة ذهولي للمرة الألف والذاكرة لم تعد ……..
قبل أسبوع ، كنت قد حصلت على موعد مع أحد المسؤولين ، فى محاولة لِسقيِ جذور الانتماء لهذا الوطن و التذكير بها على الأقل فى بُعدها الوقائي…..فى وقت تفاضلت فيه الجذور و عزّ الماء ، …….أتذكر ذالك اليوم بشكل جيد ……كان الوقت عصرا ، دلفت لقاعة الاستقبال بعد أن حررت الحضور عند الكاتب الخاص(للبطرون)….كان الاتيكيت حاضرا بقوة فى عينيه، و هو يعدل ربطة العنق بين الحين و الاخر ، مع قليل من القلق، فضحته حركة يديه ، فى جيبي بنطلونه…..
ألتقيته مرارا خارج مكتبه، كما هي عادة الكتاب الخاصين فى موريتانيا ، كان ضاحكا بشوشا….. اما هنا فالامر مختلف ، الجدية و الحزم مطلوبان !
-لديكم ميعاد ؟ أجبت بنعم و كأنني سأحصل على جائزة نوبل ، و بكل فرح ….قبل ان يسأل عن طريق من ؟ مسطرا بشكل سريع تلك المعلومات على سجل ….
بعض المسؤولين-سامحهم الله- يغالون فى صد الابواب و احاطة أنفسهم بهالة من الاجراءات تتقاطع مع مِزاج بعض "الكُتاب " المغرمين بِشبق الأنا ……
-ستنتظرون فى قاعة الانتظار ……ريثما يأتي المسؤول….
و هو يشير غير بعيد .
-مرحبا دكتور …..وخيرت أكبيرة ، صرخ احدهم بعفوية…واضعاً حدا لحالة الصمت المطبِق!
ككل مرة أصاب برهبة أن يتعرف عليك أحدهم فى اماكن عامة، مخافة أن يرتبط ذالك بذكرى سيئة……مريض تعرض لاختلاطات، او لم نوَفقْ فى انقاذه……
لملمتُ صور الذاكرة المتخمة حد الانفجار، و لثوان أنقذني و هو يردف:
-الأخت الحمد لله تدعو لك دائما، و هي بصحة جيدة، الصمام الذي وضعتم لها يعمل بشكل ممتاز …….و كلما شاهدَتْك على التلفزيون ، الا و تسمرت امامه …،،و تدعو الجميع حتى الجيران فى حالة زهو منقطعة النظير !تذكرت غياب حالة الزهو هذه لدى من يهمهم الامر …. كم هم فى حاجة لجرعات من الزهو مماثلة ….لاخراجهم من الصورة النمطية المبتورة عن الطبيب الموريتاني!
أستعدت زمام الموقف ، و الرجل يمنحني و باصرار مقعد غير بعيد من مكتب الكاتب …..نظرات الحاضرين كانت تحدق نحوي ، مزيج من الاعجاب ….إعجاب عفوي ! و شيء غير قليل من الاستغراب ! من وجود طبيب يلهث خلف الكاتب الخاص لتحديد موعد لقاء !
انزاحت كومة الذهول و الرهبة تلك ، كفص ملح …. ذاب….
عدد غير قليل من المنتظرين فى القاعة ، لوحة رسمت الوطن بمختلف ملامحه ، و كأن الكل يتلهف لهذه اللحظة التاريخية ، هل من شح للوصول للخدمات؟ …..ام من سلطٍ واسعة لهذا المسؤول !
فى الزاوية هناك ….كان شيخ طاعن فى السن و هو يرتل و بشكل خافت أذكاره….مع مسبحة تتراقص حباتها بايقاع منتظم…..عازفة لموسيقى بيتهوفنية ! و بين الحين و الاخر يسأل:
-هذا الفاضل ما جاء؟ يقصد المسؤول
عرفت لاحقا انه يكابد من أجل ان يجد عملا لابن له منذ سنوات يعاني بطالة خانقة رغم سنوات الجامعة الأربع ……..، و هو من المفترض المعيل الاساسي للأسرة.
فى انتظار ذالك يسعى الشبخ بكل ما بقي له من قوة ، أن يوفر ما يمكن لاسرته الصغيرة ، ثلاث بنات و الشاب العاطل !
توقفت لبرهة أمام النزيف الهائل لعدد كبير من أبناء الوطن و هم فى عِز العطاء ، بعدما لم يجدو طريقا لكسر رتابة البطالة ، سوى الالتحاق بالعم سام و القفز من على الحائط …..أسر كثيرة باعت ما تملك من أجل شراء مستقبل-رغم صعوبة الرهان - لابنائها……
لتجيب من زاوية أخرى ، سيدة فى عقدها الخامس ، يبدو أنها خبرت مثل هذه اللقاءات ، و هي تشرح للشيخ -دون ان تنسى ابراز الايفون ذو العيون الاربعة- …..كيف أن برنامج "الفاضل " مشحون اليوم ….مع اعطاء تفاصيل دقيقة، …..جعلت أحد الحضور -أربعيني - يعدل جلسته - قبل ان ، يضيف :
-انتِ البطرون قريبك ؟!، و بلكنة جمعت بين البولارية و الحسانية حملت الكثير من الاستغراب ، قبل ان تجيب السيدة :
-كان عندي عقد تقديم خدمات ……أريد تجديده، …..
بَونٌ شاسع بين المطالب ، جعل الشيخ يعلق و بدعابة، دون ان يفقد وقاره:
-منتي…..وصي اعلي البطرون……
دخل فجأة الكاتب الخاص و هو يبتسم ، هذه المرة، قبل أن يقدم الاعتذار للحاضرين ، بأسم معاليه:
-"الفاضل " طلبته الرئاسة……،
رغم الابتسامات ، الا ان حالة من الاستياء وجدت طريقها للبعض ، خاصة ممن له عدة أيام و هو يراجع المسؤول على أمل هذا اللقاء …….ملامح الشيخ كانت الأكثر تعبيرآ ، الغوص فى تفاصيل حكايته -حكاية وطن - كفيل بأن يفتح باب أي مسؤول مشرعآً ……..
لكن رنين الرئاسة….،، ، كان كفيلا بإقناع المنتظرين ….

استيقظت كالعادة ، على مضيفة الطائرة و هي تعلن بدء مرحلة الهبوط فى مطار ميلانو مالبنسو…. لأول مرة ، و أنا الذي أعتدت أن تتقاذفني مطارات العالم ، فى محاولة لإشباع طموح جارف للحضور …ببعديه المادي و الحسي ..،،،.ورغبة لا حدود لها لخدمة هذه الارض …...و الهروب من معارك جانبية يُصر بعض أبناء الجِلدة على جرِ الاخرين لها ….
ككل مرة كنت على موعد مع دهشة الفارق و سلامة القُلوب……..كانت الاشجار الباسقة تتراقص على طول الطريق ، رذاذ مطر كثيف ، يغطي السماء ، مع رياح باردة تحمل نسمات الجليد …..الكل يلتف باحكام …..ملامحي المشمسة ما كانت لتمر مر الكرام ….. كعادتي أخرجت الجاكيت "القديم الجديد ، و أحكمت قبعته باحكام على رأسي …..،،و ان لم يفلح فى لجم إحساسي بالبرودة…..صعب ان تنتقل من ٣٠ درجة الى صفر درجة خلال ساعات !
مرت اجراءات العبور سلسة، سريعة ، و بخليط من الانكليزي و الايطالي ، كان مفتاح المحادثة: Buongiorno و grazie…..
الفندق UNO ، يبعد عن المطار مسافة الساعة ، فى نفس المنطقة التى يحمل المستشفى اسمها SAN DONATO, منطقة هادئة، إقتصادية بامتياز ، عمارات كبيرة و أنيقة …..أمام الفندق استوقفتني شجرة صغيرة ، اغصانها تتمايل بفعل ثمارها ،لا أعرف لما تأجج الحنين الى مرابع الصبا …….
مرة أخرى ، وجدتني ضحية لفارق التوقيت و بورصة المناخ! …..أستيقظت بصعوبة بالغة ، تحت إجهاد السفر الطويل و التحضير له……..أزحت ستارة النافذة ….كان الليل قد أسدل أجنحته…..الساعة البيولوجية تذكر بنفسها !
دهشت لما أكتشفت ان الساعة الخامسة عصرا فقط ! عفوا الخامسة ليلا !
كان ذالك كافيا لبعث الامل فى امكانية ايجاد العشاء ….
مرت طقوس "المنْزَلْ"الجديد ……. بسلام خاصة بعد ان حددت اتجاه القبلة، و أنهيت تعاويذ المساء ….. منذ الطفولة أرتبطت تلك التعاويذ فى ذهني بالحماية من "مخاليق الليل " على حدِ تعبير الجدة…، أيام كان السكن فى البادية و تحت الخيمة الواحدة……تعاويذ تجد لا شك أهميتها فى بلاد الافرنج( اتراب النصاره).
رتبتُ الاغراض ، و كلمتُ الاهل ……كنا مجموعة عربية بامتياز ، من كل من المغرب، الجزائر،تونس و مصر …
مرّ التكوين بشكل ممتاز و كان الفريق المستقبِلْ فى قمة الكرم و التواضع، و كانت طبعا جراحة قلب اطفال موضوع التكوين بشقيها النظري و التطبيقي .
لم تخلو أيام التكوين ولياليه من التواصل المباشر و المثاقفة المتبادلة بيننا حتى اننى قلت لهم :
نحن فى قمة عربية مصغرة طارئة …..
ما لفت نظري ، هو حالة التوق العفوي لدى الكل للعمل الجاد و النظر للمستقبل بتفاؤل …..رغم نفس العراقيل و المطبات و ان أختلفت البلدان و اللهجات …..
نفس الذاكرة المشتركة و نفس العيون الحالمة من مصر الى موريتانيا!
-خويه اطلس الطريق……
أخرجني أحد السائقين من دهاليز الذاكرة ، و هو يشير بيده ….و يستعجلني بقوة ، يبدو أنه من أولئك الذين يسكنون المدينة …..دون ان تسكُنُهم …….على حد تعبير أحلام مستغانمي.
لفت انتباهي و أنا أعبر الشارع حشد كبير من السيدات و هن يلتحفن اللون البرتقالي، … …… توقفت لوهلة عند ثورة البرتقال بجورجيا ، ثم تذكرت كيف يشتكي البعض من عدم توفر الفواكه بشكل عام و البرتقال سيد الحمضيات …بشكل خاص ……فى بلد ما زال أهله يولون ظهورهم للزراعةً …. و كيف ان أي بلد يأكل من خارج حدوده يبقى مستقبله مرهوناً ….
-نحن هنا للدفاع عن حقوق المرأة… …. بادرتني السيدة الملتفة بالبرتقال بالسؤال : هل انت معنا ؟
كان السؤال سريعا و مباشراً…..
-نعم ، ولكن مع من ؟ من هي المرأة المقصودة ؟ المرأة الفرنسية ؟ ام الامريكية؟ام الصينية؟
نعم اذا كان المقصود المرأة الموريتانية ، المسلمة، ذات الهوية العربية -الافريقية، المتناغمة مع ذاتها و مع مجتمعها ، المؤمنة بالأسرة ككيان استراتيجي لحياة و استقرار المجتمع و نمائه…. الرافضة للقوالب المستوردة….أنا معكم ، اما غير ذالك فلا …..
هزت احدى السيدات رأسها موافقة…..و تعالت أصوات المشاركات ، قبل ان يختلط لون الحدث البرتقالي …..مع ألوان عيد الاستقلال الزاهية .
-غدا عطلة ام لا؟ أختلفت الأراء و وجهات النظر ….
استيقظت على الوالدة و هي تقول :
-قوم اوعه (استيقظ) …..الغداء جاهز
يبدو انك مرهق…..قبل ان تستطرد ككل مرة و كلها حنان و خوف: ان لنفسكِ عليك حق….
تراقصت صور الشريط ……
كل عيد استقلال و وطني بألف خير .
على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
الدكتور حيمده مادي