زمن الصراخ:
في موجة من ضجيج المعازف الباكستانية وتلاعُبِ علي خان بالمقامات الصراخية، خرج صوت منخفض لفتاة تدعى مؤمنة مستحسن، فحلّقتْ بنا لحظات في دوحة الطرب ثم انقضى همسُها مسرعا كنشوة عابرة، فودَّ السامع لو صمت علي خان وعازفوه ونطقت تلك الفتاة، فقد كان خفضُ صوتها أعذب في الأذن مما جاوره من صراخ وصخب.
كذلك، تمنى أهل الارتقاء، لو لم يكن مع طلال مداح في غنائياته سوى عوده، فقد اقتحم ضجيجُ الأوركسترا حرمةَ وقار صوته اللذيذ، فضاعت أهازيجُ دندناتِ الأوتار، في اقتتال صرخات المعازف. فليته غنى "مقادير" و"ما تقول لنا صاحب" ولم يعكر صفو حنجرته بتضارب المزامير وغيطَلة الآلات.
قيل إن محمد عبد الوهاب هو الذي أشار على طلال مداح بالهجرة من العود إلى الأوركسترا، وكذلك صنيع أهل الموسيقى مع أم كلثوم، فقد أخرجوها من أسمار الإبداع إلى بروفات الأوبرا، فصار غناؤها يأتي إليك وقد شيعه موكبٌ من الضجيج. وصار عبد الحليم حافظ يفاخر معاصريه بتنوع المعازف في غنائياته، فبين كل كلمتين صيحةُ آلة واحتضار مزمار. ثم ظل القوم كذلك، حتى ردهم عازف الناي سيد سالم رحمه الله إلى جادة الطرب في حفل غنائي لأم كلثوم، فقد خرج عن النوتة وصخبها وطار في محراب الناي نافخا فيه بعض هموم الصدر، فتعجبت أم كلثوم وصاح الجمهور: "بالله عليك أعدها يا سيد"، فلقد كان الجمهور يحسب أن الناي والعود ذهبا إلى ربهما في زمن الضجيج.
وقد كان المبدعان الأمازيغيان إيدير ومحمد رويشة أذكى من غيرهما، فلم يخالطا كثيرا الأوركسترا، فأنتج كلاهما أغانيَ رواكد، مثل "أينوفا" و"اسّندو" و"إيناس" و"آدرار إينو"، فجاءت أغانيهما على أحسن ما يكون الشجى وأرفع ما يبلغ الشجن، وتكاد ترى وأنت تسمع دندنات أوتارهما، أبقارَ إدوعيش وهي ترعى بين "خولاته" و"لكريّع".
توشك التيدنيت أيضا على الاختفاء بعدما طردها الضجيج، فلم يعد الناس يسمعونها إلا وقد أحاطوا صاحبها بعازف قيثارة وآخرَ مختص في تعذيب البيانو، فتحتضر نغمات الـتـيدنيت وهي تروم النجاة من شجار الآلات ورداءة المسجلات كي تخرج صافية إلى أذنك، ولسان حالها قول جرير:
يا أيها الرجل المرخي عمامته – هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقـيَه – أني لدى الباب كالمصفود في قرَن
وقد رآك وفود الخافقين معا – ومذ وليتَ أمورَ الناس لم ترني
إنا لله وإنا إليه راجعون.