مقدمة بين يدي الأستاذ بقلم أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديا...اعادة نشر

اتفقت جماعة من المُكْثِرين ذات ليلة على أن المهارة تتجلى في بلدنا هذا وتبلغ منتهاها في ثلاثة أحوال: عندما يُعْرب محمد سالم ولد عدود بيتا من شعر العرب، وعندما يبدأ سيد احمد البكاي ولد عَوَّه دخول الفايز، وحين يَنظُر محمد يحظيه ولد ابريد الليل في أمر الدولة وتعثرات نظام!
وفيما يخص فقيد اليوم، الأستاذ محمد يحظيه، لا أظن أن من السهل في الوقت الحالي، أو في المستقبل القريب، الإحاطة بالأبعاد المكونة لشخصيته الموغلة في التميز والعمق وسعة المعارف وتعدد المواهب.
وغايةُ العارفين بالرجل، المدركين لمستواه، لا تتجاوز اليوم أداء شهادة في حقه والتنبيهَ على حجم الفراغ الذي أحدثه رحيله في العقل العمومي. على أن تتاح للمختصين فرص أخرى أرحب للغوص في سيرته وآثاره.
وبالنسبة لي شخصيا، أدرك تمام الإدراك أني لست الأمثل للحديث عن الأستاذ؛ ذلك أن له رفاقا كُثْرا وأصدقاء بارزين في السياسة والبحث والتحرير، ألصق مني به. أما أنا فلم أكن يوما من رفاقه. لا في العمل السري والمطاردات والسجون، ولا في المعتقد الأيديولوجي والقواعد المنهجية، ولا في الحركات والأحزاب. ولا تربطنا الروابط التقليدية الضيقة.
غير أن الأستاذ محمد يحظيه - وهذه حقيقة طالما حدثتُ بها غيره واستحيت أن أواجهه هو بها - أوسع من أن يُحصر في تنظيم بذاته وأيديولوجيا بعينها. وهو، رغم ثقافته العالمية والتزامه الطويل بخطه البعثي الاشتراكي، يبقى ظاهرة موريتانية أصيلة، نحَتَتها هذه الصحراء وطبَعَها المجتمع بطابعه الصلب. وهذا مما زاد شخصيته ندرة وكثافة.
سيتم الحديث في هذه الإلماعة عن الصور الأولى التي التقطتها للأستاذ، وعن ثقافته ونخبويته وبعض كتاباته ونظرياته، وعن سيرته مع رؤساء الدولة، وسيرته مع اللغة العربية والإدارة، وسيرته مع السجون، وعن وِلايته الترارزة، وبعض طرائفه.
الصور الأولى:
لقيت الأستاذ، بلا ميعاد، صيف 2007. ولم أزل من حينها ألقاه بانتظام وأزوره وأجالسه وأقرأ له وأقيّد من فوائده ونكته، إلى يوم الثلاثاء الخامس من يناير 2021، حيث زرته على موعد فوجدته قد أصيب في اليوم نفسه بوعكة صحية مفاجئة أدت إلى وفاته بعد ذلك بأسبوع.
ولا أبالغ إن قلت إني لا أذكُر لقاء، من بين تلك اللقاءات الكثيرة، خرجت منه دون فائدة ومزيد إعجاب: بعمقه وعلمه وأدبه وعقله ولسانه. ولا أبالغ أيضا إن قلت إني لم أرصد خطأ له في التحليل والاستشراف، أو في العزو للمراجع والمفكرين والساسة والقادة، أو في الأرقام والأسماء والتواريخ والأمكنة. لقد كانت للرجل ذاكرة خارقة وذكاء حادّ استثمرهما جيدا في مجال اختصاصه.
ويجدر التنبيه هنا، ومن باب استكمال الصورة، على أني لقيت العديد من رجال العلم في موريتانيا والفكر والثقافة. لكن ليس الحديث هنا عن شيء من ذاك في مستواه العام، إنما الحديث هنا عن الثقافة السياسية والمهارة في تناول الشأن الموريتاني العام.
حصل اللقاء الأول في ندوة حول الديمقراطية الموريتانية دعيتُ لتنشيط أحد محاورها. والغريب أن محاضرتي كانت رسمية تتعلق بالجوانب الدستورية للموضوع، وقد ألقيت في الصباح، بينما كانت محاضرة الأستاذ ثانوية ألقيت آخر النهار، بعنوان التحديات الاستراتيجية للديمقراطية الموريتانية. والأغرب من ذلك أني لم أسمع قبل ذلك اليوم اسم محمد يحظيه ولد ابريد الليل ولم أقرأ له.
عندما بدأ الأستاذ يحاضر حكمت على محاضرته بالضعف وخُيِّل إلي أنه يتحدث لهجة حسانية مترهلة خالية من المحتوى، لأتوجه إلى آخر المقاعد وأبدأ حديثا جانبيا مع صديق. لكنْ، وبعد لحظات، بدأتْ تطرق المسامعَ جُمل وأفكار عميقة ودقيقة تتعلق برحابة أرضنا وهشاشتها، وقلة ساكنيها وطبيعتهم الخاصة، وبعض التشوهات الخِلقية للدولة، وفوائد الشاطئ الأطلسي الطويل ومخاطره، وصعوبة تحصين الحدود النهرية والصحراوية، وقواعد في الباب وخلاصات مركزة معزوة لعباقرة الميدان، وخاصة الاستراتيجي البروسي كلاوزفيتش (Clausewitz).
كان الأستاذ معجبا بأب الاستراتيجية الحديثة، كارل فون كلاوزفيتش، مهتما بقوانينه الحربية القابلة للتطبيق في عدة ميادين على رأسها السياسة. وقد بلغ به ذلك الاهتمام أن لخص، في جهد جهيد، وترجم الكثير من دروسه ووزعها على المهتمين من أصدقائه. لقد كان ذلك الملخص مفيدا: يفتح الذهن ويوسع الأفق وينظم الأفكار.
سألت جليسي مَن المُحاضر؟ فقال هذا ولد ابريد الليل. قلت ومن ذاك؟ قال هو الزعيم السياسي المشهور ومؤسس البعث الموريتاني. وبعد انتهاء محاضرته توجهت إليه وعبَّرت له عن إعجابي بها وبموضوعها الأصيل؛ ثم طلبت لقاء معه فوعدني بذلك وأنجز وعده بعد أيام.
خلال أول جلسة مع محمد يحظيه، قلت له إني مهتم بالأمر العام وراغب في ممارسة السياسة. غير أن عندي عوائق من أهمها نظرة المجتمع السلبية للشاب المسيَّس، وعدم الرضا عن المسالك التي يسلكها من يطلق عليهم الموالاة، مع عدم اقتناعي بأداء المعارضة القائمة وقدرتها على الإنتاج والتأثير. إضافة إلى النقص الحاد الحاصل لدي في الصور العامة والمعلومات الأساسية والخاصة.
ألقى الأستاذ محاضرة متخصصة، وتحدث حديثا حكيما منظما، مليئا بالمعلومات والأفكار العميقة والفوائد والنُّكت النادرة. وكان مما بدأ به الرد علي أن مَن لم يمارس السياسة في سن الشباب سيجد - لا محالة - صعوبة في استيعابها. أما أولئك الذين لا يمارسون السياسة إلا بعد ظهور الشيب في مفارقهم، فإنهم يفهمونها - في الغالب - مقلوبة ويطبّقونها مقلوبة! وضرب لذلك أمثلة حية.
وقال إن الساسة صاروا - في أيامنا تلك - يؤْجرون على سياساتهم وينتظرون الأوامر، بينما كانت السياسة قبل ذلك تضحية ومبادرة وقناعات. وتلك - في الحقيقة - هي المعاني الأصلية لهذه الحرفة النبيلة.
وأضاف محمد يحظيه أن للسياسة الأصيلة عائقين، بدونهما يرجى للمهتم التوفيق والنجاح. أما الأول فهو أن يمارس المرء السياسة لا يمارسها إلا لجيبه. والعائق الثاني أن يكون المرء متصلا بوزارة الداخلية، إشارة منه إلى التجسس!
ثم تطرق الحديث للوضع السياسي القائم، وذكر الأستاذ أن النظام القائم آنذاك لم يحكم بعد، وربما لن يحكم في المستقبل، وأنه يتوقع سقوطه بطريقة غير جيدة يظل بعدها متمسكا بمظلوميته وشرعيته. مع أن المتأمل لبدايات ترشيحه وطريقة وصوله للحكم قد لا يتفق معه في ذلك.
ثقافة الأستاذ وكتاباته:
بعد ذلك بمدة قصيرة، نشر الأستاذ سلسلة مقالاته الرائعة "تفاديا للعار" التي غيرت مسار السياسة والنظام. وقد تحدث فيها عن حالة البلد وإدارة النظام والحكومة له. وتحدث أيضا عن جيش المستشارين الأكفاء المحيطين بالرئيس. كما تحدث عن المعارضة والخيارات المتاحة لها وللقوى الحية والمجتمع العميق… فأظهر في ذلك من التمكن السياسي والأدبي والثقافي، وجلب من أساطير الأمم وعِبرها، ومن تاريخ المجتمع وجغرافيا الوطن، ومن النظريات الاستراتيجية والسياسية، ووظف من صيحات الإعلاميين والشباب ما لا يدخل تحت حصر. كل ذلك بأسلوب عميق جذاب، وبخيط فكري متماسك. حتى إن القارئ النهم طويل الباع لَيجزم أنه أمام أسلوب تحريري فريد.
ولما كان الأستاذ محمد يحظيه قد شرَّفني بترجمة إحدى حلقات السلسة المذكورة، دفعني ذلك إلى التأكد عن قرب أنه من الكُتاب القلائل الذين لا تذهب الترجمة بروح ما يكتبون ولا تؤثر في سَبْك أفكاره. وأذكر هنا أنه اتصل بي بعد نشر تلك السلسلة سنوات يلتمس مني ترجمة حلقة من سلسلة له أخرى بعنوان "موريتانيا وأزواد"، فسألته أخيرٌ ذلك؟ هل قرَّرتم إسقاط النظام؟ قال بل أريد مساعدته هذه المرة! وعندما جئته بالنص المترجم سألني ما رأيك في المقال؟ قلت له: ليس هذا مقالا، وإنما هو سحر. كان يحرر بأسلوب ساحر متميز، تمتزج فيه الثقافة العالمية برؤية محلية ومنهج أوربي، لم أعثر له على مُشاكل!
في تلك السلسلة - تفاديا للعار - طرح محمد يحظيه جزءا من نظريته السياسية الأصيلة حول ما يسميه هو موريتانيا العميقة، والتي تلتبس - بالمناسبة - على البعض مع مصطلح آخر سطحي استُخدم على نطاق واسع في الأيام التشاورية المنظمة سنة 2009 وما بعدها. لكن لا مماثلة بين المصطلحين. كما أنه لا مماثلة بين مفهوم موريتانيا العميقة، ومفهوم الدولة العميقة الذي أبدعته الإنتليجانسيا المصرية في العقود الأخيرة.
إضافةً إلى مقالاته الطويلة الكثيفة، كتب محمد يحظيه سلاسل روائية رائعة لم يُترجم أغلبها – للأسف – إلى العربية. أذكر منها: "جيفة في سِقط اللِّوى" (CADAVRE SUR LA DUNE)، وهي رواية مستوحاة من حياة "امحاصر" البيضان.
و"اعْويْليِّن المتوحش" (AOUEILIYENE LE SOLITAIRE)، وهي قصة واقعية عاشها بطلها في صحاري تيرس والرابوني ومقطير والحنك...
و"الجِمال الضاحكة" (LES CHAMEAUX QUI RIENT)، وهي رحلة واقعية للمؤلف نفسه. كما ألّف كراسا رائعا بعنوان "جذور قوة المارد الصيني الصاعد".
نرجو ترجمة ما لم يترجم من أعمال محمد يحظيه، وخروج مذكراته قريبا. كما نرجو أن يكرمه البلد، وأن تحظى الساحة الفكرية والعلمية بمركز حقيقي للدراسات الاستراتيجية يحمل اسمه، أو معهد مدني أو عسكري، أو كلية أو قسم جامعي، وأن يخرج للتاريخ عمل يتناول شخصيته ورؤيته وإنتاجه.
لقد كان من أدنى فوائد الرجل خروجه علينا في كل مرحلة من مراحل التيه والضياع، التي لا تُعَد ولا تُحصى، بكتابة تلخص ما جرى ويجري في بلادنا خلال تلك المرحلة، ثم يزودنا برأي وخيار واضحين، ويتنبأ بما سيقع. كل ذلك بأسلوب ماتع، ومنهج أصيل، ومعلومات خاصة.
بعد الاطلاع على عامة إنتاج الأستاذ ومجالسته، أيقنت أنني أمام كنز نفيس لا يقدر بثمن. فمثل ذلك الرجل يحظى في دول العالم ومجتمعات الدنيا بعناية خاصة. أما البسطاء والمتخرجون للتو من الجامعات، والذين لا يفرق الواحد منهم بين الحوض وأفَلَّه، وبين آوكار وإگيدي، ولا بين آمسَّاگه وتيرس، ولا يعرف الفرق بين بوياگي ولد عابدين وأحمدُ ولد حرمة، أو بين محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح، ولا الفرق بين موسى فال والداه ولد عبد الجليل، وبين التيجاني ولد الكريم ومحمد الحسن ولد لبات، فإن الرجل هو فرصتهم الوجودية.
كان محمد يحظيه يعرف جميع مناطق البلاد بأوديتها وسباخها وسهولها وجبالها وكثبانها معرفة مذهلة منظمة. ويعرف المجتمع بطبقاته وقبائله وعائلاته وشخصياته معرفة تفوق الوصف. وكان يخص بعض الخُلَّص بمعلومات خاصة عن المجموعات وميزاتها ودرجات تأثيرها، وكيف بدأ ذلك التأثير ومتى، وما هي الشخصيات والظروف التي كانت سببا في ذلك كله، وإلى أين وصل.
كان قارئا وبنهم للأدب الفرنسي والروسي والإنجليزي والإيطالي، ولروائيي أمريكا اللاتينية، ومؤلفات طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. ناهيك عن السياسة والفلسفة والفكر والتاريخ والفنون الإستراتيجية.
نظرتُ أيضا في ما كتب الآخرون عن صاحبنا، وبحثت في مختلف أبعاده وحقائقه. وسألت عنه عدة سياسيين، من بينهم خصوم له. وسألته هو في إحدى الأمسيات الرياضية سؤالا خاصا ومباشرا، وربما كان غير مناسب. قلت له: على أي أساس يتهمكم البعض بالجهوية؟ فقال في هدوء تام ووقار: نعم. هذه من تُهم البسطاء المتكررة! لكنْ ألا يعلم هؤلاء أن من أكبر مآخذي على صدام حسين انحيازه للعراق دون بقية العرب؟!
وأضاف قائلا: أنا لا أعير اهتماما لمثل تلك الاتهامات، ولا أرد على أي كتابة مهما كانت طبيعتها ومصدرها. لكني سأخصك بالقول إني لم أكتب مقالا واحدا خاليا من ذِكر الشيخ سيديَا! والسبب في ذلك هو الإعجاب برؤيته السياسية وهِمَّته، فأي جهة تجمعني بشيخ سيديَ؟ كانت تلك إحدى طرق الإجابة غير المباشرة المعروفة لدى كبار المثقفين.
يحكى أنه عندما سألتْ إحدى الإعلاميات الشاعر الشامي الكبير نزار قباني: ما هو الصوت العربي المفضل لديك؟ قال: فيروز طبعا. قالت: حسبتُكَ تقول أم كلثوم. قال: حسبتكِ تتكلمين عن البشر! وعندما سألَتْه عن شاعره المفضل قال: أبو فراس طبعا. قالت: حسبتكَ تقول المتنبي. قال: المتنبي لا يقاس بالشعراء!
كان محمد يحظيه يعشق أعلام البلاد من كل الجهات والفئات، وخصوصا المثقفين منهم. فكان يقول إن ثقافة الشيخ محمد المامي والمرابط محمذ فال ولد متالي مُحَيِّرة، لكثافتها وتميُّزها عن ثقافة أمثالهم من علماء البلاد. وكان يقول إن ذلك يرجع - لا محالة - إلى اتصالهما بالبحر وحصولهما على مراجع وروافد غير متاحة لغيرهما. وكان شديد الإعجاب بخصال الكثير من أمراء البلاد وأعيانها، وفي مقدمة تلك الخصال الكرم.
نخبوية الأستاذ وعمقه:
كان محمد يحظيه نخبويا: في ذهنه وسلوكه وحديثه وتقاليده واستهلاكه. وكان يفكر في دائرة رفيعة. وكان من الصعب على الإنسان أن يسبر أغوار شخصيته. ولا أبالغ إن قلت إن أعمق الناس يصير كأنه في منتهى السطحية حين يتحدث في السياسة أمام يحظيه.
لا أعرف بالضبط خصوم الرجل وخصوماته - ليس ذلك من الأسرار التي اطلعت عليها -. لكني لم أسمعه يوما يوجه إلى خصم بعينه كلاما هابطا أو كتابة جارحة. وأرى أنه كان متاحا لعامة الساسة في هذه البلاد أن يستفيدوا منه، محترفين وهواة. حتى أشدهم خصومة له كان بإمكانهم ذلك.
يختلف معك الأستاذ ويتفق، وقد يبذل أدوات كاسحة في الانتصار لرأيه أو فرضيته. لكنْ مخطئ من يظن أن الخشونة والإساءة لجهة ما، والتسببَ في معاناة أو جرح شخص قد يكون هدفا لمن هو في مستواه من الوعي والشمولية والرقة والأدب. لكن جدية الرجل وصرامته المنهجية تجعل المرء يحسبه متعصبا إقصائيا. والحقيقة خلاف ذلك.
وقد ناقشتُه في مبحث تاريخي كنت مهتما به، وكتب هو عنه بطرح مختلف مشحون بالصور الجميلة الملتقطة من الجانب الموافق لطرحه دون الجانب الآخر؛ فأقر الطرح الذي دافعتُ عنه وأنصف الموقف التاريخي، قائلا إنه لا خيار أمام أصحابه، لأن الفرصة ضاعت هنا أو ضُيِّعت قبل ذلك بنحو مائة سنة. ثم برر طرحه قائلا إنه هو الأصل وهو المتماشي مع من شَبُّوا في اليسار من أمثاله.
لا يولي الأستاذ محمد يحظيه اهتماما بالمال والأغراض الخاصة وليست عنده في ذلك موهبة، رغم ما لاقاه من ضيق ذات اليد، ورغم نشأته البورجوازية. ولم يقبل يوما أن يتدخل لدى المسؤولين لصالح فرد من عائلته. ولأهله في ذلك كله قصص معبرة.
من نظرياته السياسية:
اخترع الأستاذ محمد يحظيه خلال تجربته السياسية الطويلة نظريات سياسية وقوانين للحكم غاية في الذكاء والنضج. أذكر منها، غير الذي سبق، نظرية المجهول. ومفادها أن معادلة السياسة والحكم لا تقتصر على النظام والمعارضة وأوضاع البلد الظاهرة. وإنما يحسمها دائما ذلك العنصر المجهول الذي يغفله أغلب الساسة والمنظرين، ولا يضعون مكانه رمزا كما يفعل أهل الرياضيات. وإذا كان المجهول غير قابل للرصد والتحديد، إلا أن تأثيره وفتكه حاسمان، ويتفاوتان بتفاوت التحصين العام للنظام وإدراجه له في المعادلة. وقد بسط شيئا من نظريته تلك في منشور خرج للساحة سنة 2014 موقع باسم الرأي السياسي.
أما نظرية موريتانيا العميقة ودورها في حسم السباق نحو الحكم، ومتى تتفرق وكيف تأتلف أوقاتَ القلق، فقد بسط جزءا منها في سلسلته "تفاديا للعار".
ومن قوانينه السياسية أن تركيز حُكم موريتاني ما على البعد الأمني مؤذن بعجزه وتآكله وسقوطه.
ومن نظرياته السياسية أيضا تشبيهه الوضعَ العام بالجهاز الوراثي، حيث يتم تخزين حوامض نووية (DNA)، لكل الأحداث، سلبية كانت أو إيجابية، كبيرة أو حقيرة، في قاعدة بيانات خلفية. ولذلك ترانا نتفاجأ أحيانا من بروز عنصر هام لا نعرف مصدره، أو من انفراج غير مُبرَّ أو تعَثُّرٍ غير مفهوم. وقليلٌ مَن يستطيعون تشخيص تلك الحالات ورصد جذورها.
إن الأمور في هذا المجال، يقول محمد يحظيه، غير محسوسة لكن تأثيرها كبير وواضح. ودَوْرُ بائعة المساويك والراعي البعيد في إسقاط وتثبيت النظام حقيقي، حيث ينبعث البخار الضاغط ممن لا يكتبون ولا يقرأون ولا يعبِّرون إلى مستويات فوقهم، مرورا بطبقات متعددة من النخب الشعبية والاجتماعية التي تصوغه صياغة أحسن، ثم بالطبقات المتعلمة والإعلام والموظفين والحكومة والجيش والحاكم... ثم يسري ذلك ويصل الى أبعد النقاط دون أن يسقط منه شيء.
يقول لك من لا يلم بالحقيقة: فلانٌ استولى على الحكم، وفلانٌ أسقط النظام. والحق أن الوضع هو الذي أوحى في أذن من فعلوا ذلك. ولم يحدث تغيير سياسي واحد إلا والوضع العام هو الذي املاه وقرَّره.
سيرته مع رؤساء الدولة:
عرَف محمد يحظيه عامة رؤساء الدولة الموريتانية عن قرب، وله معهم خبرة كبيرة وتجارب مباشرة، مما جعلني أطلب منه يوما أن يكتب لنا رواية سياسية عنوانها "الرئاسة" نأخذ منها صورة أعمق وأشمل لما يجري في القصر الرئاسي، وليستفيد منه المتخبطون من الرؤساء والمرؤوسين.
وقد أشار محمد يحظيه على عامة الرؤساء بآراء متنورة ومفيدة للبلد، تم تنفيذ بعضها وبقي البعض بلا تنفيذ. وقال لي إن الطلاق البَائن يقع دائما بينه وبين الرؤساء الحاكمين قبل مغادرتهم الكرسي؛ إذْ لم يترك رئيس واحد السلطة إلا بعد أن يفارقه الأستاذ محمد يحظيه. وكان يرى أن من واجبه إشعارهم بذلك. وأذكُر بالفعل أني سألته، بعد عودتي من رحلة طويلة، عن مستجدات السياسة، فأخبرني أنه حمَّل أحد المقربين من الرئيس الحاكم آنذاك رسالة مختصرة مفادها أنه لم يعُد يدعمه!
ومع أن من المتوقع خروج تلك الوقائع في مذكرات الأستاذ، إلا أن مما يجدر ذكره أنه كان يكره الحديث في حياته عن نفسه وعن حصيلته. ولا أدري هل تحرَّج من ذلك في ما خلَّف من مذكرات. أتوقع أن يخرج شيء من ذلك دون إطناب. كما كان يتحرج كثيرا من ذكر دوره في قرارات اتخذها رؤساء ما زالوا أحياء لئلا يحرجهم أو ينقص من قيمة إنجازهم. ومع هذا كله لا بأس بذكر طرَف قليل من تلك الآراء.
ولنبدأ برأيه المعارض لحرب الصحراء. فبعد الإصلاحات السياسية المشهورة التي تمت في النصف الأول من عِقد السبعين، لقي الأستاذ محمد يحظيه الرئيس المختار ولد داداه، الذي يُعتَبَر صاحبنا من أشد معارضيه. وحدثه المختار حديثا صادقا هادئا قال فيه، ضمن حديثه عن التعريب وأسفه على تأخيره والتدرج فيه: "نحن كنا وما زلنا كالغريق، نمسك كل ما صادفت أيدينا مما قد يكون سببا في نجاتنا. والغريق قد يمسك خشبة، وقد يمسك حتى أفعى! ثم التحق الأستاذ بحزب الشعب وعمل فيه بجدية ونشاط، في خلية يقودها الإطار الكفء البارز سال عبد العزيز، الذي جال معه صاحبنا في مختلف أنحاء البلاد. ويبدو أن عبد العزيز اكتشف مواهب الأستاذ وثقافته السياسية وخبرته في العمل الحزبي ومَلَكاته في التحرير والتعاطي مع القواعد.
وهكذا إلى أن جاء قرار حرب الصحراء الذي عارضه محمد يحظيه بشدة، على غرار عامة المنتسبين للحركات السياسية. وقال يحظيه في اجتماع حزبي مخصَّص للحرب إن هذا القرار خاطئ، مشبها موقفنا ومركزنا بين الدول الفاعلة في تلك الحرب بطفل يلفُّ رقبته بحبل معقود (نشّيطه)، وهي عقدة سلسة يسهل شدها وتضييقها، ثم يعطي الطفلُ رأسَ الحبل لمن هو أكبر منه وأسرع، وينطلق الجميع في سباق معلوم النتيجة. كان ذلك بداية خلافه مع حزب الشعب وانتهاء علاقته الخاطفة مع النظام الأول.
كذلك، نصح الأستاذ يحظيه الرئيس المصطفى ولد محمد السالك نصائح راشدة، كان من بينها تعيين أصحاب خبرة ونزاهة عملوا في النظام المدني. أذكر منهم محمد الحنشي ولد محمد صالح، الذي كان محمد يحظيه معجبا بصدقه وخبرته. وقد نصحني يوما بلقاء مجموعة من الشخصيات المرموقة ذات الخبرة الطويلة والسيرة الجيدة، من بينهم محمد الحنشي، الذي وعدني نجله، صديقي محمد البشير، بترتيب لقاء معه. لكن الحالة الصحية لمحمد الحنشي كانت في ذلك الوقت قد بدأت تحول بينه وبين اللقاء.
نصح الأستاذ أيضا الرئيس المصطفى بتعيين عبد الله ولد داداه والاستفادة من خبرته الكبيرة، فعينه على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. كما طلب من جدُّو ولد السالك أن يعيِّن يحيى ولد عبدي ومحمد ولد سيدي عالي والِيَيْن ففعل. وحاول بنفسه تعيين عبد الله ولد محمد سيديا، أول مهندس زراعي في موريتانيا، فشكره عبد الله واعتذر، لأسباب شخصية.
لا يعلم الكثير من الناس أن محمد يحظيه هو الذي نصح الرئيس معاوية بمنح البلاد دستورا تعدديا متكاملا، وفي دفعة واحدة، مع ما يتطلبه ذلك من حرية الصحافة وحرية الترشح وحرية الاقتراع وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات. وقد كان هذا من باب المعجزات في ذلك الوقت، خصوصا لدى الذهنيات العسكرية آنذاك؛ فكان رد معاوية أول الأمر أن هذا ضرب من الجنون يستحيل تحقيقه.
غير أن الأستاذ يحظيه استطاع، وبمساعدة من الدكتور لوليد ولد وداد ودداهي ولد عبد الله، أن يقنع معاوية بالقرار الذي بقي طي الكتمان، لا يعلم به غير أولئك النفر. حتى أعضاء اللجنة العسكرية، أصحاب السلطة في البلاد، لم يحصل لهم علم بالقرار قبل أن يسمعوه في خطاب عيد الفطر مع بقية المواطنين. وقد أصيب بعضهم جراء ذلك بالذهول.
كان الدكتور لوليد مديرا لديوان الرئيس وصديقا حميما للأستاذ، ولم يفتأ محمد يحظيه يحدث عن ذكائه وإيمانه بالدولة، واصفا إياه بأنه كتاب كثيف يصعب فتحه. أما دداهي ولد عبد الله، مدير مخابرات معاوية وابن عمه، فقد كان له سابق انتماء للبعث الموريتاني. وقد ساعد ذلك الانتماء القديم في التخفيف من تعذيب الأستاذ وخشونة استجوابه في بعض المناسبات السجنية.
وهكذا كان محمد يحظيه يقول إن قوة القرار السياسي تكمن في كتمانه وتحصينه من الاختراق، كما في هذه الحالة، وفي حالة تأميم ميفيرما حيث لم يخبر المختار وزراءه بالقرار التاريخي إلا الثامنةَ، ساعةً واحدة قبل إذاعته لعموم الناس.
وفيما يخص أهمية القرارات السياسية المصيبة للهدف قال الأستاذ: "إنما يدور في قلوب الناس جدير بالاعتبار ويتعين على الساسة استنطاقه وإخراجه إلى حيز الواقع، مهما كان مستوى غموضه وضبابيته. فهناك دائما، وفي كل مرحلة، فكرة مركزية ومطلب جماهيري عام، إن استجاب له الحاكم أقبلت عليه الناس، وإن أعرض عنه أعرضوا.
وضرب لذلك مثالين مشهورين: الأول هو ما فعله المختار حين وجد نفسه في وضع سياسي صعب جدا فنظر من حوله وعلِم أن الإجماع منعقد على ضرورة تأميم ميفرما فقرر تأميمها، لينقلب الوضع رأسا على عقب، وتُقبل عليه الناس إقبالا منقطع النظير، ويصير أشدهم معارضة له هم الأشد تأييدا.
وأضاف محمد يحظيه أن معاوية عرف في سنة 1990 وضعية أخطر من وضعية المختار المذكورة؛ فبحث معاوية عن الفكرة المركزية الكامنة في قلوب الناس، فلم يجد إلا الديمقراطية. مع أن مطلب الديمقراطية لم يكن معبَّرا عنه آنذاك بشكل صريح وقوي وبنضالات حقيقية طويلة النفس. لكنه كان، رغم ذلك، حاضرا بقوة في قلوب الناس. ولذلك صار معاوية بعد منحه دستور 1991 مَلِكا.
إن الناس، يقول الأستاذ، لا يعرفون دائما كيف يعبِّرون عما في أذهانهم، لكن استنطاق ذلك من مهام أولئك المنتصبين للممارسة السياسية، ولعله من أعظم مهامهم! نحن إذاً نحتاج اليوم إلى معرفة القضية المركزية في واقعنا هذا. وأنا لم أجد إلا قضية واحدة، هي التي عبر الجميع عنها طيلة هذه الندوة. إنها لم تعد مبهمة. إنها التغيير! ثم بدأ يتحدث عن التغيير. كان ذلك في ندوة نظمها المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل يوم 25 يوليو 2020.
نصح محمد يحظيه الرئيس محمد ولد عبد العزيز، في الأسبوع الأول من حكمه، بأن يقتحم، وبشجاعة وإقدام، الأحياء الشعبية، وأن يقوم بتخطيطها وتوزيعها على المستحقين، قائلا إن الأغلبية الساحقة من الموريتانيين ترتبط بهذا الموضوع ارتباطا وجوديا، مشيرا إليه بالبحث لتلك المهمة عن شخص كفء مؤهل لها. كما نصحه نصائح أخرى من بينها أن يترك الجيش على حاله واستقراره، وذلك عندما أبلغته جماعة مقربة من محمد ولد عبد العزيز أنه قرَّر إبعاد الجنرال محمد ولد الشيخ الغزواني عن قيادة الجيوش، بناء على نصيحة منهم ومساع حثيثة سبق أن طلبوا من محمد يحظيه نفسه المساعدة فيها. فما كان من صاحبنا إلا أن طلب على عجل لقاء الرئيس ونصحه النصيحة أعلاه.
كذلك، نصح الأستاذ الرئيس محمد ولد عبد العزيز. بل نصح الجيش والدولة كلها بعدم الاستجابة للضغوط الخارجية القوية الداعية إلى إقحام القوات المسلحة في حرب يحضَّر لها في أزواد ضد الأزواديين أنفسهم، على حد فكرته. وذلك في سلسلة مقالاته المشهورة "موريتانيا وأزواد". وقد لقيه محمد ولد عبد العزيز بعدها مباشرة وفتح معه الموضوع.
يصنِّف محمد يحظيه الرؤساء والوزراء والضباط والتشكيلات السياسية والشخصيات الوطنية، من حيث النضجُ والعمق وعدمهُما. وكذلك طبقات الموظفين العموميين وأسلاكَهم تصنيفات خاصة، ويَروي عنهم مرويات طريفة، ويحكم على فئات منهم أحكاما دقيقة. وكان من نظرياته السياسية أنَّ حكم البلاد وتسيير الشأن السياسي بذهنية الموظف وروحِ الوظيفة كارثة على الدولة!
كان للأستاذ رأي مفصل وتصوير مُعَمَّق لوضع وسلوك النظام الحالي، الذي كان مطلعا بالتفصيل وبالمعلومات اليومية على ما يدور في أعلى أجهزته. وأذكر يوم قال لي، بعد أشهر من التشخيص والتحليل: لقد أوقفت قراءة النظام. لقد اتضح كل شيء! ليبدأ بعد ذلك تنظيم الموضوع وتلخيصه وتحديد السيناريوهات المستقبلية. وعندما سألته لِمَ لا تُنير الرأي العام بكتابة في الموضوع؟ أجابني أجوبة مقنعة، كان آخرها أنه لم يعد يولي كبير اهتمام للتحركات التكتيكية، وأن الخطوات القادمة ينبغي أن تكون استراتيجية. وبالفعل قدَّم الأستاذ رِجْلا في اتجاهين، أحدهما استراتيجي، والآخر سياسي.
قال الأستاذ إن الأنظمة الموريتانية صارت، ابتداء من النصف الثاني من عهد معاوية، يلتبس عليها الرجل الصالح لمنصب وزير الخارجية، بالرجل الصالح لإدارة شركة الكهرباء، أو قيادة الحزب الحاكم! وأن صفتي الكثافة والمسؤولية لم تعودا مطلوبتين لأعضاء الحكومة.
كان يقلِّب يديه عجبا حين يعلم أن موظفين سابقين، ممن لم يكن لهم يوما رأيٌ، ولم يدخلوا طيلةَ أعمارهم هَمًّا عاما ولم يحملوا مشروعا أو يشاركوا فيه، قد نشروا مذكراتهم، متسائلا عما عساهم يكتبون؟ وقال إنه ليس حتما على كل من شغل وظيفة سامية خلال مساره المهني أن يكتب مذكرات يحدث الناس فيها عن تفاصيل ضيقة.
سيرته مع اللغة العربية والإدارة:
أداء محمد يحظيه الوظيفيُّ وخدمتُه اللغةَ العربية، ودورُه في تعريب التعليم والإدارة والسياسة، وإقناعُه رؤساءَ ووزراء وضباطا، كانوا بعيدين كل البعد من العربية ثم صارت هي أحب الأشياء إليهم، ليبذلوا جهودا جبارة في سبيل تعلُّمها والخَطابة بها، رسميا وشعبيا، أمرٌ معلومٌ وقصة طويلة.
وله حادثة مشهورة مع الدفعة الأولى من الإداريين المعرَّبين الذين وجدوا أمامهم أبوابا موصدة ومديرا للوظيفة العمومية يقول، بكل بساطة وبراءة، إنه لا يستطيع اكتتاب إداريين معرَّبين! وعندما طرحوا مظلوميتهم على محمد يحظيه، المكلَّف للتو بحقيبة الوظيفة العمومية، أصدر للمدير أمرا واضحا باكتتابهم. لكن الأستاذ غادر الحكومة قبل انتهاء مسطرة الاكتتاب التي تم توقيفها على الفور؛ لتدخل عليه الجماعة نفسها بعد ذلك بمدة في مكتبه بالأمانة العامة لرئاسة الدولة ويأمر بإنصافهم في الحال وإكمال اكتتابهم.
حكى لي يوما أن مِن أشد أوقات السجون تأثيرا عليه يوم لحظ أن ضباط الشرطة الذين يستجوبونه في إحدى محطات التوقيف السياسي والتعذيب كانوا كلهم معرَّبين - عَرَف ذلك من خلال ألسنتهم، إذْ كانوا مقَنَّعين -. وأضاف أنه كان يسعى طيلة شبابه ويحلم بأن يصِل المعرَّبون إلى أصغر دَرَكَات الشرطة. واليوم، وقد وصلوا إلى أعلى تلك الدَّرَجات، ها هم يستجوبونه بخشونة وحُمْق !
سيرته مع السجون:
كان للأستاذ دور كبير في ترشيح وإدراج مدننا التاريخية ضمن برنامج مواقع التراث الإنساني العالمي الذي تديره اليونسكو. وشاء الله أن يسجن سجنا انفراديا في مدينة تيشيت التاريخية، وفي ظروف معيشية ومناخية صعبة، لا يرى فيها إلا الخفافيش.
سُجن إحدى عشر سجنا سياسيا، سِيمَ خلالها سوء العذاب وذاق أصناف المشقة والإهانة. ولا أعلم موريتانيا سجن بسبب آرائه السياسية هذا العدد من السجون. والأصعب من ذلك والأندر في نخبنا السياسية، أن محمد يحظيه ضحَّى في سبيل قناعاته بوظائف سامية رماها عُرْضَ الحائط، منها منصب وزير، ومنصب أمين عام للرئاسة.
وِلايته الترارزة:
ولِيَ الأستاذ الترارزة فعرفها معرفة دقيقة ووطَّد العلاقات مع كثير من رجالها. وارتبط ارتباطا عاطفيا بشيوخ المحاظر، خصوصا المحاظر الحَسَنية التي كثيرا ما صرح بانبهاره بمستواهم وسلوكهم وتأملاتهم. وكان يذكر على وجه الخصوص لقاءات جمعته بالعلامة الشيخ أحمدو ولد محمذ فال، الذي قال إنه يلبس لباسا بسيطا ويجلس طول النهار لا يكاد يأكل أو يشرب، ويعلِّم جميع التلاميذ دون أن يفتح كتابا واحدا. وكان يصفه بالفيلسوف، بل يشبه كلامه بكلام كونفشيوس. وقد سجّل المعزون القادمون من تلك النواحي الكثير من مظاهر اهتمامه بتلك القرى والمحاظر أيام الجفاف، كتقديم الجُزُر وجِمال السقاية والسيارات المملوءة بضروريات الحياة.
كذلك كان الأستاذ صديقا للأمير أحمد سالم ولد سيدي والشيخ محمذ ولد محمودا، ومعجبا بفلسفة وتأملات المرابط محنض بابه ولد امين الذي استوحى منه شخصية محنض، إحدى الشخصيات المحورية في روايته الرائعة "جيفة في سِقْط اللِّوَى". وكان صديقا للمختار ولد الميداح ومعجبا بمحمد ولد الشويخ ونمط حياته وصرامة أسلوبه. أما محمدٌ ولد سيدي إبراهيم وهمام ولد المختار فال فقد جمعه وإياهما ميدان الإعلام ومشاكل النقابة، فضلا عن الصداقة. وله مع الجميع ذِكَر شائقة ونبيلة.
كانت علاقات محمد يحظيه بكبار رجال الفن والأدب خاصة ومميزة. ذكر لي قصصا له كثيرة مع محمد ولد بَوْبَّه جدُّه العم، ولالة بنت اعلي خدجة ومعلومات وحِكَما وطرائف استوحاها من الجميع.
من طرائف الأستاذ:
دعاباتُ محمد يحظيه وطرائفُة عميقة ومُعبِّرة، على غرار كبار الساسة والمثقفين الكلاسكيين. وكثيرا ما يُعَبِّر بطرق مسرحية أو تراثية مفاجئة تجعل أكثر الناس جدية وجلافة يستسلم للقهقهة.
قلت له يوما إن محمد المصطفى ولد بدر الدين ليس بالشخص البسيط. فقال: كيف يكون بسيطا وهو الذي انتقل، في وقت قصير، من مَحاظر التَّجَالْ إلى قيادة الماركسية!
وقال إن صديقته المقربة لالة بنت اعلي خدْجَه كانت يوما في بيته، وكان معه بعض رجال السلطة الحاكمة آنذاك، لعل من بينهم عسكريين، إذْ كانت لالة يومئذ تعد نفسها من أعضاء اللجنة العسكرية. قال إنه دخل عليهم رجلٌ مهمومٌ وأخبرهم أنه شاهد ثلاثة من أعضاء اللجنة العسكرية توقفوا على جناح السرعة ونزلوا من سياراتهم في مكان غير مناسب من الشارع، مما يشي بتخطيطهم لأمر خطِر. فقالت لالة: لا تهتموا بالأمر. أنا أنبِّئُكُم بما يدور بين أولئك الضباط: إنهم يتخاصمون حول نصيب كل واحد منهم من الإسعاف! وبالفعل تبيَّن فيما بعد أن القمح كان هو موضوع الوقفة !
لقيته يوما مَقْدَمَه من رحلة طويلة إلى البادية، وكان ذلك بعد تعيين محمد ولد الشيخ الغزواني للمهندس إسماعيل ولد بَدَّه رئيسا لأولى حكوماته، فسألته ما رأيكم في تعيين صديقي؟ قال: إنه كَراكِب بَكرة غير مروَّضة (ماهي مُسَادْبَه)، لا هو يستطيع إيقافها أو توجيهها، ولا يعرف إلى أي شجرة وفي أي حفرة ستُودي به. ولكي يقفز من فوق ظهرها قفزة سليمة سيحتاج مستوى عاليا من التفنن في ركوب الإبل !
حكى لي يوما أن الراحل أحمد الوافي ذهب بعد انقلاب العاشر يوليو ضمن وفد رسمي إلى ليبيا بحثا عن المساعدة. وكان القذافي قبل ذلك يضيق ذرعا بعدم ثرثرة الرسميين الموريتانيين، الذين كانوا يتحاشون الخوض في كثير من الموضوعات الخارجة عن مهامهم. وذلك لعدة أسباب، منها عامل اللغة، حيث كان أغلبهم فرانكوفوني التكوين. وكان الجيل الأول من الموظفين يخشى كثيرا الوقوع في أخطاء بروتوكولية.
ثم شاء الله أن وجد القذافي ضالته الموريتانية في أحمد الوافي، فانفرد به في خيمة ضربت غير بعيد، وثرثرا معا لمدة طويلة، لعلها بلغت يوما وليلة. وعندما رجع الجليسان قال القذافي: أنا وأحمد لم نُكمل المقدمة!
ثم كان من عادتي مع الأستاذ، كلما ودّع بعضنا بعضا، أن يقول له إننا لم نُكمل المقدمة. والحق اليوم، ودون مبالغة أو تنكيت، أن الأستاذ رحل قبل أن نبدأ المقدمة !