ورحل الفدائي

الرجال مواقف أولا يكونون، آثار شاهدة أو لا يذكرون، وحدهم العظماء من يخلدهم التاريخ في مذكراته الطويلة ويمُد كل يومياتهم بمداد لاصق وخط عريض مشكَّل، ووحده التاريخ من ينْبئك عن ثلة قليلة تفيأت ظل شجر الحياة الوارف ذات زوال قائظ قبل أن يشدوا رحالهم عن تلك الشجرة الشاهدة على تعاقب قوافل الركبان السيارة.
لست أدري من أين أبدأ صفحات الرجل الراحل أحمدو السالم ولد بابتح، أأكتب عن حربه الطويلة مع الإقطاع أيام كان متحكما يتسلط على الضعفاء؟ أم أكتب عن مغامراته في أدغال افريقيا ضاربا في أنفاقها المتشعبة باحثا عن بصيص يوصله إلى نور حياة كريمة؟ أم أكتب عن نجاته من حريق محقق في دولة ليبيا؟ أم أسطر عن أيام البندقية التي حارب فيها جيش السفاح شاروون بكل بسالة وهو يحاول الإنزال في مطار بيروت؟.
وإذ أعيش لحظات الوداع المؤرقة ماذا أكتب ومن أين أكتب وكيف أكتب؟ وماذا عساي أكتب وأنا أعيش صدمة عاشها ويعيشها كل من فقد أعز الأحبة إليه.
ماذا لو فتحت سفْر التاريخ وقلبت بسرعة بعض صفحاته علها تخفف أرقا متواصلا في ثالث ليلة أعيشها في دنيا خالية من أحمدو السالم ولد بابتاح، إنها غصة حزن لا يمكن أن تقابل إلا بالاستسلام التام لقضاء الله "وطب نفسا إذا حكم القضاء".

ولد "الفدائي" في منطقة "العُقلْ" ودفن فيها وبين الحياة والموت قصص من قصص الرجال لن يصدقها إلا من عايشه عن قرب فتسرب له قليلا منها إذ لم يكن للمرحوم رغبة في الكتابة لزهد فطري ورثه كابرا عن كابر.
بالمختصر كان الفدائي رجلا .. نعمْ كان رجلا في زمن يعد فيه الرجال عدا، .. صنعته أيام الشدة واللأواء فكانت طبيعة "العُقْل" القاسية مصنعا للرجال حيث صهرته هنالك وجعلته من رجال الفولاذ الأحرار، فلم يكن ليتهيب صعود الجبال ولم يرض لنفسه أن ".. يعشْ أبد الدهر بين الحفرْ"..
كان بالإمكان أن يعيش خانعا مستسلما لواقع مجتمع بدوي بفطرته، جلف بطبيعته، متفاوت بطبعه، لكن الرجل عاش متمردا على واقع رآه بائسا و سيئا قبل أن يراه بعض أترابه كذلك فصاح في شبابه مع الشابي:
"خُلِقْتَ طليقا كطيف النسيم .. وحرا كنور الضحى في سماه
كذا صاغك الله يابن الوجودْ ... وألقتك في الكون هذي الحياهْ..".
كانت جموع الشباب تتدفق لعبور نهر السنغال جنوبا فعبر الفدائي المتمرد هنالك مع العابرين بحثا عن لقمة كسب حلال، أقام هنالك زمنا قصيرا قبل أن يكتشف أن وظيفة محلات التقسيط لا تعدو أن تكون عبودية من نوع آخر فخرج وودع السنغال يبتغي في الأرض من فضل الله.
أيام أدغال افريقيا وسرائرها عصية على الحديث بكل تفاصيله ولا ينبئك مثل من جالس بطل قصة ليست من أخيلة الأدباء بل عاش صاحبها الموت المحقق في زمهرير الشتاء متقلبا بين مدن النيجر ثم هرب مع العصابات إلى شمال اتشاد أيام الحرب الضروس بينها وبين ليبيا.
مع غبش الفجر تسلل مع المهربين إلى الأراضي الليبية وهنالك وصل مدينة بنغازي ثم سبْها فطرابلس التي عمل فيها طباخا محصلا للقمة عيش حلال قبل أن يتعرض لحريق كاد يؤدي بحياته، فنجاه الله من هذا الحريق.
كانت المحطة الأهم في حياة المرحوم واستحق بها لقب "الفدائي" تلك التي ودع فيها الحياة نحو الشهادة المحققة في سبيل فلسطين، حيث سمع نداء فلسطيينيا ينادي الفدائيين العرب فخرج بشجاعة الأبطال ملبيا نداء المجاهديين فمر بسوريا وفيها تدرب على مختلف الأسلحة شهرين ثم دخل الأراضي اللبنانية أيام المواجهة الشديدة وهنالك كلف مع مجموعته بالدفاع عن مطار بيروت ومنع إنزال قوة شاروون المتغطرسة.
يتحدث الشاعر أحمدو ولد عبد القادر عن شهرين قضاهما الفدائي أحمدو السالم في خندق وهو يألف الشهداء ويودعهم كل صباح، وكان ولد عبد القادر يتندر بذكريات الفدائي حين يتحدث أنهم ألفوا الموت وألفوا جثامين الشهداء حتى أنهم تمنوا الشهادة مرات لأنفسهم وتمنوها أكثر لأصدقائهم حتى يستفيدوا من أعداد "عُلب السردين" وهي معاشهم الأهم طوال أيام الحرب.. .
صمد الفدائي الحر أحمدو السالم ولد بابتح مع مجموعته المكلفة بمنع الإنزال في مطار بيروت ثلاثة أشهر متتالية وانسحب مع "كتائب الفتح" إلى تونس.. سنة 1982.
عاد الرجل الحر المتمرد إلى وطنه وليس في جعبته من غنائم المعارك سوى القناعة بالمبادئ وسرعان ما انخرط في جيوش معركة أخرى هي معركة التعليم وتربية الأجيال طاف بهذا الوطن شرقا وغربا، وكان يرغب في المناطق الأكثر هشاشة والتي ينفر المعلمون منها لكن روحه المتمردة جعلته يحرص على الفئات المحرومة.
رحل الرجل في صمت قبل أن يتحقق حلمه في دولة مواطنة حقيقية عادلة خالية من التفاوت الطبقي، دولة عمل عليها عقودا من خلال تربيته للأجيال من مختلف الأعمار والمناطق والشرائح.
إنا لله وإنا إليه راجعون ورحمة الله على روح أخٍ ووالد كفلنا يوم فقدنا والدنا صغارا فلم نشعر معه باليتم أبدا وجزاه الله عني وعن إخوتي الصغار مرافقة الرسول في فراديس الجنان.

مختار بابتاح