
لاشك أن للأعياد في ذاكرة البشر و الشعوب فرحا و مسرات و بهاءا .
لا سيما ذاكرة الأعياد التي شكلت منعطفا و تأريخا إنسانيا ،
فتلك لها مكانة خاصة و كبيرة جدا من حيث الرمزية و الدلالة و الحدث .
هكذا كان شأن فاتح مايو عيد العمال العالمي .
الذي حول مسار الحركة العمالية من أقوال إلي أفعال حقيقية و ملموسة .
حيث تعود أصول المناسبة إلي تحركات عمالية بالولايات المتحدة الأمريكية أواخر القرن التاسع عشر .
كان أبرزها إحتجاجات شيكاغو عام 1886 م التي شهدت مواجهات قوية و عنيفة بين العمال المضربين و الشرطة .
كان شعارهم فيها 8 ساعات للعمل و 8 ساعات للراحة و 8 ساعات للنوم .
بعد ما كانوا مجبرين علي العمل 16 ساعة متواصلة يوميا في ظروف لا تخضع لمعايير السلامة أو الأمان .
فكان لهم ما أرادوا بعد ما قدموا تضحيات كبيرة و كبيرة جدا في الأنفس و الأرواح .
عرفت فيما بعد بقضية هايماركت Haymarket .
و أصبحت لاحقا رمزا عالميا لنضال الطبقة العاملة .
تم الإعتراف بشكل رسمي بعيد العمال عام 1889 م أثناء إقامة أول مؤتمر إشتراكي دولي بمدينة باريس لإحياء ذكري قضية هايماركت .
و منذ ذلك الحين بات الأول من مايو مناسبة للإحتفال بالعمال و مطالبة الحكومات و أرباب العمل بتحسين ظروف العمل و الأجور و الضمانات الإجتماعية .
خاصة في الدول التي لا تتوفر فيها بنية قانونية واضحة بشأن حماية حقوق العمال .
من هنا يأتي أهمية العيد الدولي للشغيلة إستذكارا و تقديرا لتلك التضحيات الجليلة و الجهود و المواقف النبيلة و تجديدا للمطالبة بكل حق غائب أو ضائع لأي شريحة أو طبقة من طبقات العمال في أنحاء العالم.
فما كانت الأحداث الدامية التي شهدتها و عرفتها مدينة ازويرات المنجمية في 29 مايو 1968م
رغم الفارق الكبير في التوقيت و الزمن مع ما حصل في آمريكا
إلا إمتداد لهذا الحراك العمالي الدولي يصب في نفس الإتجاه و مدعاة للإنتفاضة و المطالبة بالحقوق و الوقوف أنذاك في وجه المستعمر الظالم .
حيث انتفض العمال الموريتانيون حينها و دخلوا في إضراب شامل رافضين غطرسة و ظلم إدارة الشركة الفرنسية ميفرما لإستخراج الحديد من الشمال و التي نهبت ثروات و خيرات البلاد طيلة الحقبة الإستعمارية وبعيد الإستقلال ،
مطالبين بحقوقهم مما أدي إلي قمعهم بالرصاص الحي و بشكل وحشي ،
تسبب في سقوط عدد كبير من القتلي و الجرحي .
شكل ذلك الحدث إنتفاضة غضب داخل الوطن و مناسبة لمناصرة و تأييد العمال الموريتانيين . مما أحدث غليانا نقابيا شبابيا لدي العمال ضد الإستعمار الجديد و محاولات تجهيل العمال بحقوقهم مقابل تأمين المكاسب لأرباب العمل الجشعين .
أحداث مؤلمة ساهمت بشكل أو بآخر و بفضل تضحيات و نضالات هؤلاء العمال في التعجيل بتأميم شركة ميفرما 1974م .
لتحل مكانها الشركة الوطنية للصناعة و المناجم ( اسنيم ) .
من جهة أخري كانت قصائد و كلمات الشاعر الكبير و المخضرم احمدو ولد عبد القادر فيما بات يعرف بشعر النضال مؤثرة و حاضرة داخل المشهد و منسجمة مع سياق النضال رافضة لكل أشكال الظلم و محاربة للفساد .
فأنتشر بذلك شعره وسط العمال و خارج الديار مما أعطي لمجزرة عمال ميفرما و للقضية برمتها بعدا إنسانيا علي المستوي الإقليمي و الدولي و خاصة داخل محيطنا المغاربي .
حيث قال :
ضحايا الشقايا ضحايا الفساد
يعم الفساد عموم البلاد .
إلي أن يقول :
فماذا نقول و ماذا نريد
نريد حياة بلا ظالمين
إلي أن يتدرج في القول :
تعبنا سئمنا صرعنا الرمال
نبشنا المعادن عبر الجبال
و كل الجهود و كل الثمار
تعود مكاسبا للمترفين .
ثم يواصل فيقول :
نهوضا لنطعن حكم الفساد
و نقضي علي الظلم و العابثين .
فهل يحسبون بأنا نسينا
رفاق البطاح رفاق الجراح
حقوقا تضاع دماء تسال
جموع تثور علي المجرمين .
في حين شكل تخليد عيد العمال فاتح مايو طيلة الأربعة عقود من قيام الدولة المركزية ،
مناسبة سنوية هامة للإحتفال و التذكير بالعرائض المطلبية من خلال تسليط الضوء علي حقوق العمال و تاريخ نضالاتهم ،
كما يعد فرصة ثمينة لخروج مختلف طبقات العمال من كل القطاعات للتظاهر بأعداد كبيرة في مسيرات ضخمة مشيا علي الأقدام او بالسيارات أو الآليات و المركبات تجوب الشوارع طولا و عرضا .
حاملين و رافعين اللافتات التي تحمل الشعارات الممجدة لهذا اليوم و المطالبة بزيادة الأجور و تحسين ظروف العمال و تطوير بيئة العمل و الحد من غلاء الأسعار ،
يأتي ذلك علي وقع خطابات نضال مؤثرة تطالب بالعدالة الإجتماعية بتأطير و توجيه من النقابات و الإتحادات النقابية .
حيث تتعالي الأصوات و تجف الحناجر من ترديد شعارات نضال تطلب برفع الأجور و تحسين ظروف العمال .
قبل إستعراض المطالب و تسليمها إلي الجهات المعنية عن طريق ممثلي المركزيات النقابية كما جرت العادة .
فكان التجاوب معها يتم في السابق بشكل جاد و موضوعي،
أما اليوم فتختفي بإختفاء ملامح هذا اليوم .
دون رد رسمي علي العرائض المطلبية أو إستجابة لدعوات الحوار التي تطلقها النقابات أحيانا كشريك إجتماعي .
لكن في نهاية الثمانينات و بداية تسعينات القرن العشرين،
شهدت الدولة الموريتانية توجها ديمقراطيا ليبيراليا علي غرار الدول النامية .
أسس لعهد كان معتلا ديمقراطيا و وطنيا.
بضغوط فرضتها سياسات النظام الدولي الرأسمالي ،
فكانت لها التأثيرات و التداعيات المباشرة علي التغييرات التي حصلت لاحقا في مختلف مناحي الحياة السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية .
مما ساهم في طغيان المادة و ظهور قيم بديلة عززت من نفوذ القبيلة التي هي نقيض الدولة ،
بالإضافة إلي ظهور عولمة غزت البيوت و أستباحت الأعراض و الخصوصيات ،
فتراجعت معها القيم المجتمعية و الثوابت الدينية و الوطنية .
( ظهر الفساد في البر و البحري بما كسبت أيدي الناس ..) صدق الله العظيم .
فحينما تضيع القيم و تقتل المبادئ يطغي كل شر ،
يسود الكذب و يعم النفاق و تكثر الخيانات و ينتشر بالتالي الفساد .
لا شك أن مظاهر التراجع و الضعف في أداء الحركة النقابية هو نتيجة حتمية لتدني مستوي روح النضال لدي المسؤولين و تراجع شعبية النقابات مما أدي إلي تراجع ملحوظ في تأثيرها و قدرتها علي ممارسة الضغط السياسي و الإجتماعي مقارنة بما كان عليه الحال قبل التسعينات .
حيث كانت النقابات تشكل قوة ضاربة و وازنة و حاسمة في مواجهة سياسات الحكومة .
قبل أن تميل ميلا و تستكين للهدنة .
رغم حجم فساد وظلم و غطرسة الإدارة الموريتانية ،
مما جعل البعض يتهمها بالتخاذل و التراجع عن دورها الأساسي.
لدرجة أن كل شئ أصبح يقاس بمقاس التربح .
ففي الوقت الذي تراجعت فيه قيم النضال و تغيرت معه مستويات التعبئة و التحضير لعيد العمال ،
فإن ثمة نقابات داخل المشهد مازالت تحافظ إلي حد ما علي مواقفها و مبادئها الثابتة و تؤدي دورها في الحراك الإجتماعي دون المستوي المعهود لها في السابق ،
ربما من باب ( الطبه )
فدخول الشركات الوسيطة علي خط العمل و تشغيل عمال لفترات طويلة برواتب منقوصة و بأقل الأجور دون عقود تحمي حقوقهم أو الإستفادة من التغطية الصحية
يعد جريمة لا تغتفر بحق الإنسان.
أقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها عبودية معاصرة مقيتة .
كالعمال المؤقتين أو الغير دائمين داخل كبريات الشركات الوطنية و القطاعات الوزارية.
فجميع التجارب السابقة تؤكد أن كل الزيادات التي تحصل من حين لآخر و التي تستهدف الرواتب و المعاشات و رفع الحد الأدنى للأجور تأتي ضمن حزمة الحماية الإجتماعية التي تتبناها الحكومة بتوجيه من فخامة رئيس الجمهورية،
لكن سرعان ما تصاحبها زيادة موازية و كبيرة لأسعار المواد و السلع ،
نتيجة جشع التجار و سيطرة أصحاب النفوذ من رجال المال و الأعمال علي الأسواق و علي مفاصل الدولة ،
فيلتهم الغلاء فرحة الزيادة .
لا شك أن الإدارة الموريتانية تعاني من إختلالات تراكمية عميقة لم يتم التغلب عليها بعد ،
مثل سوء التسيير و التدبير و التجاهل و التقليل من شأن العنصر البشري .
نتيجة تبعات التوظيف و التعيين الخاطئ و غير مستحق .
في ظل غياب تبني سياسات تشغيل ناجعة و إرساء عدالة إجتماعية .
مما كان له الأثر السلبي الكبير علي ضعف أداء الإدارة و تردي الأوضاع و تعطيل الخدمة و انتشار البطالة ،
و بالتالي إتساع الفساد في كل الإتجاهات .
لدرجة أن المواطن فقد الثقة في الإدارة .
مما دفع بآلاف الشباب الموريتانيين إلي ركوب المخاطر و الهجر نحو الولايات المتحدة الآمريكية بحثا عن غد أفضل.
صحيح أن ممارسات من قبيل المحسوبية و الزبونية و التحيز و المحاباة السياسية ما فتئت تخلق تضاربا في المصالح و تكافؤ الفرص داخل المجتمع و تقوض الديمقراطية و تقلص مجال دولة القانون و المؤسسات.
لكن الواقع الإداري لدينا يكشف أن الحسم في التعيين أو الترسيم أو رفع الأجور أو دفع العلوات يتم عادة و في أغلب الأحيان وفق الرغبة الذاتية للهرمية الإدارية ممثلة في شخص المسؤول الأول الذي له الصلاحية الكاملة. المطلقة لترسيم أو تعيين الشخص الذي يراه مناسبا للمنصب الشاغر أو المناصب التي يراد خلقها دون مراعاة مصلحة القطاع .
و هذه الرغبة عادة ما تحددها إعتبارات بدل معايير ترتبط بتقييمات ذاتية تستند إلي ولاءات شخصية أو فئوية .
بينما يجمع كل المراقبين للشأن الوطني أن الوضع الراهن للعمال غير دائمين في مختلف قطاعات الدولة و داخل كبريات الشركات و المؤسسات العمومية الخدمية و غيرها .
ماهو إلا مظهر من مظاهر الفشل الإداري و سوء التدبير و نتيجة حتمية لتداعيات سياسات التشغيل الخاطئة المتبعة في الإكتتاب و الترسيم و التوظيف .
بالإضافة إلي مآلات سوء التسيير .
فكيف لنا كعمال أن نطالب بالترسيم أو رفع الأجور و تحسين الظروف ،
و معظم إداراتنا تدار بالمزاج ؟!!!
حفظ الله موريتانيا
تحية إحترام و امتنان لكل يد عاملة مخلصة للوطن .
اباي ولد اداعة .



