
شهدت الساحة الموريتانية مؤخراً تفعيلاً لـ الشرطة البلدية، خطوة أثارت تساؤلات عريضة حول طبيعتها، وهل ستمثل قفزة حقيقية في مسار اللامركزية أم أنها مجرد إعادة توزيع للأدوار الإدارية؟ الترقب هنا لا يقتصر على المواطنين فحسب، بل يمتد إلى كيفية رسم حدود هذه القوة الجديدة في المشهد الأمني والمدني.
هل هي "الشريف الأمريكي" أم "حارس المدينة"؟
الخيال يذهب بنا مباشرة إلى نماذج مثل "الشريف" (Sheriff) في الولايات المتحدة، ذو الصلاحيات الواسعة في إنفاذ القانون والتحقيق الجنائي. لكن الشرطة البلدية الموريتانية، وفقاً للمراسيم الحكومية، تتجه نحو نموذج مختلف تماماً.
هذه القوة الجديدة ليست معنية بالمهام الجنائية التقليدية التي تضطلع بها الشرطة والدرك الوطنيان. هي في جوهرها شرطة إدارية، تتركز مهامها حول دعم صلاحيات العمدة في مجالات أساسية تمس حياة المواطن اليومية بشكل مباشر:
النظافة والسكينة العامة: تنظيم الأسواق، إزالة العوائق، وضبط الأصوات المزعجة.
تنظيم المجال: تطبيق قوانين العمران، مراقبة المقابر والبيئة، وتنظيم مواقف السيارات وحركة المرور.
بمعنى آخر، هي القوة التنفيذية التي تحول قرارات العمدة الإدارية من حبر على ورق إلى واقع ملموس، بهدف تقريب الخدمة العمومية وحل المشاكل المحلية بعيداً عن بيروقراطية الأجهزة المركزية.
أكثر الأسئلة إثارة للقلق والفضول يدور حول طبيعة أفراد هذه الشرطة: هل سيكونون مسلحين؟ هل تدريبهم أمني أم مدني؟
المراسيم الموريتانية لم تمنح هذه القوة تفويضاً صريحاً بالتسليح أو التدريب العسكري المباشر. بل نصت على أن العمدة يمارس صلاحياته "بالاستعانة بـ القوة العمومية المختصة". هذا النص يحمل مفتاح التفسير:
الطبيعة المدنية: من المرجح أن يكون أفراد الشرطة البلدية في الأساس كوادر مدنية أو شبه عسكرية مكلفة بالضبط الإداري وتطبيق اللوائح البلدية، وقد تكون مجهزة بوسائل ضبط غير مميتة (كالعصي أو الأصفاد).
الاستناد إلى المركز: في حال تطلب الأمر استخدام القوة المفرطة أو التدخل في قضايا أمنية حساسة (مثل فض النزاعات الكبرى أو عمليات الهدم القسري)، فإن العمدة سيعتمد على الشرطة والدرك الوطنيين (أي القوة العمومية المسلحة والمدربة أصلاً) لتنفيذ قراراته تحت إشرافهم ومراقبتهم.
هذا التفعيل للشرطة البلدية يمثل بلا شك قفزة نوعية في تمكين البلديات. فقد أصبح لقرارات العمدة وزن تنفيذي فوري، يُنفذ تلقائياً إذا لم تعترض عليه السلطات الإدارية المركزية خلال فترة زمنية محددة.
لكن المأزق يكمن في التحدي العملي: هل ستكون هذه الشرطة مجرد "أعين للمراقبة" تستدعي قوات الدولة في كل مخالفة مرورية أو بناء عشوائي؟ أم سيتم تأهيل أفرادها بمهارات كافية في الضبط الإداري وإدارة النزاعات لتكون "ذراعاً تنفيذية فعالة" ومستقلة نسبياً؟
نجاح التجربة يتوقف على جودة التكوين الذي سيتلقاه هؤلاء الأفراد، وقدرة العمد على إدارة هذه القوة بكفاءة وشفافية بعيداً عن التوظيف السياسي. إنها لحظة اختبار حاسمة لمسار اللامركزية في موريتانيا، ومتابعة الجمهور ستبقى معلقة على كيفية تحويل هذا المشروع الواعد من إطار قانوني مثير إلى واقع ميداني منظم ومحترم.
محمد علوش القلقمي