المأمورية الرئاسية الثالثة و تعديلات الدساتير الإفريقية بين الرغبة في الخلود و محاولة تجاوز التحصينات

بالتأكيد الدستور ليس شيئا مقدسا لا يمكن تعديله أو تغييره ،
إذا ما أقتضته المصلحة العامة للشعب و للوطن .
لكن يجب ألا يكون مجالا للتعديل حسب المزاج أو الرغبة الجامحة أو وفق مقاسات تحت الطلب .
فالدعوة لتغيير الدستور لأجل شخص أو مصالح ضيقة ،
تعد إنتكاسة دستورية خطيرة .
بحيث أن الدستور ليس وثيقة شخصية بل هو العقد الإجتماعي الذي يجمع بين الحاكم و المحكوم
و يحدد واجبات و حقوق كل منهما .
و يضع الضوابط للدولة المدنية ( دولة القانون و المؤسسات ) ،
بقدر يؤمن للمواطنين حياة كريمة بكل متطلباتها المادية و المعنوية .
كما ينبغي أن يعكس قيم المجتمع و مثله،
مستلهما المرجعية الجامعة بما ينسجم تلقائيا مع إيقاع الحياة في جوانبها المركبة ،
محدثا أثره الطبيعي الذي يتجلي في الشد و الربط بين مؤسسات الدولة ،
و إحكامها علي وجه تتحقق فيه المصالح العليا للشعب ( الوحدة الوطنية و التماسك الإجتماعي، التنمية و النهضة و كرامة المواطن و العيش الكريم ) .
مع تبيان شكل النظام السياسي و توزيع السلطة ،
و علاقة المواطن بالدولة و المؤسسات فيما بينها ،
مع مراعاة المرجعية الدينية لكل بلد .
ففي سياق أعم نجد أن الأنظمة الإفريقية لها قاسم واحد مشترك يتمثل في ضعف و غياب الحكامة الرشيدة و تعثر الديمقراطية و عدم تحقيقها للتوقعات و النجاحات التي انتظرتها شعوب المنطقة .
إضافة إلي أفتقارها لأسباب عوامل الرعاية و التعزيز و هشاشة الإقتصاد و تفشي الفساد و انتشار البطالة و هجرة الشباب ...
حيث تتركز الثروات في يد فئات قليلة معينة دون غيرها سواء داخل النظام أو تلك التي تدور في فلكه .
بالإضافة إلي التحديات الأمنية و النزاعات الداخلية و الخارجية التي تضعف بنية الأنظمة و تستنزف الموارد الشحيحة في الأصل
مع عدم إحترام المواثيق الديمقراطية و الدساتير و لجوء كثير من الرؤساء الأفارقة المدنيين لتمديد فترات حكمهم أو تحايل بعضهم عبر تزوير نتائج الإنتخابات .
مما يغري العسكريين و يمنحهم مشروعية الإنقلابات .
إذ لاشك أن الإنقلاب آلية غير دستورية للإستيلاء علي السلطة .
إلا أنها تبقي أحيانا الوسيلة الوحيدة المتاحة للتغيير داخل إفريقيا .
بالمقابل يجمع كل المحللين للشأن السياسي الإفريقي أن القناعة الراسخة و الوعي السياسي الحاصل الآن داخل إفريقيا و الرافض دستوريا لمأمورية رئاسية ثالثة علي مستوي بعض دول القارة و المحصن ديمقراطيا من عبث الخلود في السلطة هو مؤشر جيد لمستوي النضج نحو إشاعة ثقافة التناوب الديمقراطي السلمي و إحترام المضامين الدستورية.
لعل ذلك ما جسدته علي أرض الواقع علي غرار موريتانيا الجارة الجنوبية السينغال بإجرائها إنتخابات رئاسية ديمقراطية نموذجية أثبتت من خلالها للعالم أن الشعوب قادرة علي التغيير السياسي و التداول السلمي علي السلطة بالأدوات السلمية و الديمقراطية الداخلية
رغم كل محاولات الرئيس الأسبق ماكي صال ،
اليائسة و الفاشلة للتحايل علي الدستور و القفز علي مواده من أجل التمديد لفترة رئاسية ثالثة.
قبل أن ينتصر كل من المجلس الدستوري و الجيش لإرادة الشعب و للديمقراطية السينغالية .
بحيث تعد دولة السينغال البلد الوحيد الذي شكل حالة إستثنائية داخل منطقة غرب إفريقيا لم يسبق و أن حدث فيها أي إنقلاب عسكري منذ قيام الدولة المركزية.
في حين نجد أن كثيرا من دول إفريقيا شهد إنقلابات عسكرية متلاحقة و تعديلات دستورية عديدة في السابق و في الآونة الأخيرة بعضها تجاوز الخمسة تعديلات مثل : أوغندا، إثيوبيا، رواندا ، سيشل ، الصومال. بوروندي ، إفريقيا الوسطي ...الخ .
و بعضها شهد ما دون ذلك كحال جنوب إفريقيا و تجربتها الناجحة و كذلك دول شمال إفريقيا تحديدا الجزائر ، تونس ، المغرب ، موريتانيا.
إلا أن هذه الدساتير لا تزال محل نقد و إثارة و نقاش و تمحيص في بعض الدول من طرف السلطة و المعارضة علي السواء ،
و هو ما يحتم الحديث كل مرة عن تعديلات أو تغييرات دستورية و لو بشكل رتوشات تجميلية تمس الشكل دون الجوهر .
لعل ماميز الفترة الإنتقالية في بلادنا ما بين 2005 _ 2007 م برئاسة المرحوم اعل ولد محمد فال ،
رغم مآخذ و تحفظ البعض ،
هو التعديل الدستوري ضمن الإصلاحات السياسية التي تم بموجبها تقليص فترة الرئاسة لخمس سنوات و تحديد العهدة بمأموريتين متتاليتين ،
و تحصينها دستوريا في خطوة غير مسبوقة لتكريس و تعزيز مبدأ التناوب السلمي علي السلطة في قادم المناسبات الإنتخابية .
إلي جانب الإشراف و القيام بإجراء انتخابات رئاسية دون مشاركة الرئيس الحاكم من داخل القصر الرمادي و لأول مرة في تاريخ البلاد .
مسار توج بإنتخاب أول رئيس مدني منتخب المرحوم سيدي ولد الشيخ عبدالله،
سرعان ماتم الإطاحة به عبر إنقلاب عسكري قاده الرئيس الأسبق السيد محمد ولد عبد العزيز .
و الذي تميز عن بقية زمرة العسكر بتبنيه صناعة الإنقلابات العسكرية حيث كان صاحب فكرة التخطيط للتخلص من نظام ولد الطايع بحكم موقعه و نفوذه داخل كتيبة الأمن الرئاسي.
شهدت البلاد في عهده إستفتاءا شعبيا لتعديل بعض مواد الدستور تم بموجبه إلغاء مجلس الشيوخ و تغيير العلم و النشيد الوطنين،
قاطعته أحزاب المعارضة التقليدية أنذاك و بعض المنظمات الحقوقية و المجتمع المدني و الهيئات النقابية .
وصفت الخطوة حينها بالغير دستورية مما تسبب في إحتقان سياسي كبير و إندلاع مظاهرات إحتجاجية شعبية غاضبة كان لها بالمرصاد .
لم يثنيه ذلك عن تنظيم انتخابات رئاسية فاز بها .
و تولي من خلالها رئاسة البلاد لمأموريتين متواليتين مدتهما (10 سنوات ) سبقتها فترة إنتقالية .
هذا و قد شهدت بداية المأمورية الثانية لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني،
دعوات مماثلة بعضها طالب بمأمورية ثالثة و بعضها قدم مرشحا للنظام من شريحة لحراطين في خطوة سابقة لأوانها ،
أقرب للتشويش علي العمل الحكومي و تعطيل البرنامج الإنتخابي الذي سبق و أن تعهد به فخامة رئيس الجمهورية طموحي للوطن.
كادت ان تلقي بظلالها علي المشهد السياسي و تأخذ منحني خطير علي أمن و إستقرار البلد ،
لولا تدارك جهات حكومية عليا الموقف محذرة من مغبة المضي قدما في إتجاه هذا المسار السلبي .
من جهة أخري تعود نشأة الأحزاب السياسية بشكل رسمي إلي عهدة الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع و بالتحديد في تسعينات القرن الماضي حيث أعلنت البلاد من خلال دستور 1991 م عن نظام سياسي تعددي
أجريت بموجبه أول انتخابات رئاسية في نفس العام.
و أسس لمرحلة جديدة من الديمقراطية كرست للنفاق السياسي و التخلي عن القيم و المبادئ و الثوابت الوطنية ،
تشكلت علي شاكلتها أحزاب سياسية موالية و معارضة للنظام مرخصة و معترف بها رسميا طبقا للقوانين المنشئة للأحزاب و للأعراف الديمقراطية.
و إن كان بعض المحللين يري بأن معظم الأحزاب الحاكمة جاءت علي مقاسات جلباب العسكر و بشكل متحور أسس و أرخ لكل مرحلة حكم أو رأس نظام.
PRDS. ADIL UPR. INSAF
دون أن تتغير الأوجه او اسماء الأشخاص و هكذا دواليك.
فالمتغير في المعادلة واحد .
يتغير في الشكل دون المضمون بخروج رأس النظام مطاحا به أو مغادرا لسدة الحكم كرها أو طواعية بحكم قوة الدستور .
أول من يتناساه و يتنكر له إن لم يقاضيه حاشيته و محيطه السياسي علي غرار ما حصل في الحقبة الطائعية و مع الرئيس المخلوع المرحوم سيدي و لد الشيخ عبدالله .
وكذلك الرئيس الأسبق السيد محمد ولد عبد العزيز .
الذي كان بالأمس القريب قاب قوسين من الدفع به نحو مأمورية ثالثة مخلة بالقانون و بمواد الدستور المحصنة.
لولا قدرة قادر جعلته يرفض طواعية الوقوع في المحظور.
تصرف مشين و مهين مبني علي مصالح شخصية دأبت عليه النخب الوطنية و السياسية كرس للحكم الأحادي في المراحل السابقة .
كما أسس لمجموعة من الممارسات خارج إطار القيم و الثوابت الدينية و الوطنية خدمت الأنظمة المتعاقبة و زادت من حالات الغبن و التهميش و اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع.
كما وفرت بدائل قيم خاطئة اطغت علي مختلف الحياة السياسية كالنفاق السياسي و النفوذ القبلي و انتشار الفساد و سوء الإدارة و استغلال النفوذ و تضييق الخناق علي أحزاب المعارضة التي شكلت في مراحل سابقة من مسار الأنظمة منافسا قويا مقارعا للنظام و للأحزاب الحاكمة.
سرعان ماتلاشت و تراجعت تلك القوة الخارقة في ظل دخولها في هدنة و مغازلة مع النظام الحالي إضافة إلي القطيعة مع القواعد الشعبية في أحلك الظروف.
و التمسك بقيادة حزبية واحدة دون غيرها منذ التأسيس مهيمنة و مسيطرة في كل الأوقات و الأحوال .
رغم ما يبدو من تحديات يبقي الأمل قائما من أجل مستقبل واعد لإفريقيا و غد أفضل و حياة كريمة لأبناء القارة في ضوء عوائد انتاج نفط و غاز مرتقبة و احتياطات كبيرة من الطاقة الأحفورية و استغلال مشاريعها في مجال الطاقة المتجددة الآخذة في التوسع مما سيعزز مسار التنمية الإقتصادية و يوفر مصادر العيش للملايين و يحد من هجرة الشباب و أصحاب الكفاءات .
بالإضافة إلي انعكاساته الإيجابية علي قطاعات الصحة و التعليم و ضخ المياه و تحليتها و إنتاج الكهرباء و الأغذية الزراعية و غيرها .
بالمختصر المفيد ما تحتاجه إفريقيا اليوم أكثر من أي وقت مضي هو ديمقراطية حقة و حكامة رشيدة تؤسس لمرحلة جديدة من التعايش السلمي و القطيعة التامة مع الفساد و ممارسات الماضي الخاطئة و تحدث نقلة نوعية لمسيرة التنمية داخل القارة .

حفظ الله إفريقيا
اباي ولد اداعة .