أكدنا منذ عدة سنوات رغبتَنا في الانضمام إلى المغرب العربي المختار ولد داداه لـ«جون آفريك»: الأوروبيون سمَّموا العلاقةَ بين العرب والأفارقة

تعود إلى الواجهة مسألةُ الهوية كلما تجددت السجالات العرقية، فيما يعد مؤشراً على هشاشة الاندماج الوطني ووجود توترات داخل بنية المنظومة الوطنية، رغم مرور كل هذه السنوات والعقود على قيام دولتنا الوطنية.
في السنوات الأولى من الاستقلال وقيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية، كان المتطرفون من النخبة البولارية يعتبرون المختار ولد داداه منحازاً لـ«البيظان»، فيما كان المتهورون من البيظان ينظرون إليه باعتباره محابياً لـ«لكور». وهو التناقض الذي تفجّر مع أحداث عام 1966 حين رأى عددٌ من مثقفي البولار أن القرار الحكومي القاضي بالتوسع في تعريب النظام التعليمي يمثل تمهيداً لتهميشهم وإبعادهم من الحياة العامة.
كان سينغور يعتبر المختارَ «ناصرياً متنكراً» ومعادياً للبعد الأفريقي في موريتانيا وهويتها الثقافية. وكان الناصريون الموريتانيون يعتبرون مفهومَه حول «همزة الوصل» أداةَ تمييع لمسألة الهوية، وإن تفهّموا أحياناً منهجَه الإصلاحي التدرُّجي.
وفي أواسط الثمانينيات زار الدكتور محمد المختار ولد السعد الرئيسَ المختار في منفاه التونسي، وكان مقيماً في فيلا «الهادي نويره» (رئيس الوزراء التونسي الأسبق)، فسأله إن كان ينوي كتابةَ مذكراته، فأشار بسبابته إلى دفاتر من الحجم الكبير كانت موضوعةً على أحد الرفوف وقد بدت منتفخةً جراء كثرة استخدامها في الكتابة، وقال: البعضُ يعلمون عن المعارك المريرة في مواجهة الابتلاع من أشقائنا في الشمال، ولا يعلمون شيئاً عن معاركَ أخرى مع جيراننا الجنوبيين لا تقل عنها شراسةً.
في عام 2020، وبمناسبة مرور ستين عاماً على استقلالنا الوطني، أعادت مجلة "جون آفريك" نشرَ مقابلة موسَّعة أجراها مراسلُها «جان بيير انجاي» مع الرئيس المختار ولد داداه في ديسمبر 1973، وترجمتها "الشروق ميديا" إلى اللغة العربية، وهنا ننشر لكم محورَها المتعلق بهوية موريتانيا والدور الذي أهلتها للاطلاع به الجغرافيا والتاريخ معاً، وعلاقتُها بعمقها العربي وامتدادها الأفريقي:

جون آفريك: لقد اندلع من جديد الصراع في الشرق الأوسط، واتخذ منعطفًا غير مسبوق. وبلدكم، وهو همزة الوصل بين أفريقيا جنوب وشمال الصحراء، أدى منذ عام 1960 – أي تاريخ حصوله على الاستقلال - دوراً دبلوماسياً دائماً من أجل تشجيع الدول الأفريقية على القطيعة مع الدولة العبرية.. كيف ترى النتيجة؟

المختار ولد داده: سأجيبكم بمثل موريتاني ترجمته «لا نريد أن ندعي فضلًا ليس لنا». ومع ذلك، يجب أن أخبركم أنه منذ الاستقلال، أدركنا أن مكونات بلدنا - من الزنوج والعرب - لم تستوف جميع الشروط اللازمة من أجل تفاهم أفضل. بل لعلي أقول حتى إنه يوجد سوء فهم متبادل. وأود أيضاً أن أضيف أن الاستعمار له علاقةٌ كبيرة بذلك؛ فوفاءً لمنهجه «فرّق تسد» وسّع وعمّق سوء الفهم المذكور.

جون آفريك: هل تعتقد إذن أنه توجد علاقة بين السياسة الاستعمارية والموقف المتحفظ للأفارقة اتجاه العالم العربي والمشكلة الفلسطينية؟ هل يمكنك توضيح هذه الفكرة التي، كما أعتقد فعلًا، تمثل رأيك؟

المختار ولد داداه: جيد! في كثير من الأحيان، يخاطب الأوروبيون الأفارقةَ السود ويقولون لهم: العرب استعباديون وعنصريون، وعندما يخاطبون العرب، يسرون إليهم بأن السود يعانون عقدةَ الاضطهاد ويفتقرون إلى الثقافة.. إلخ. والنتيجة هي أن العلاقات مسممة، وأن الهوة الفاصلة توسعت. لذا كان من الضروري ربط الجزأين.
في البداية، كنا نحن الموريتانيين في وضع سيئ للغاية كلما أردنا أن نؤدي دوراً تاريخياً في التقارب، مع أنه دور يوكله إلينا التاريخ. لماذا؟ حسناً، أولًا وقبل كل شيء، بسبب المطالبات المغربية حيال بلدنا، فقد تجاهلَنا العالمُ العربي لفترة طويلة. حتى إنه لم يعترف بنا عند استقلالنا، باستثناء تونس. لكن الجزائر لم تكن مستقلةً حينها. هذا هو السبب في أننا لم نؤد هذا الدور بشكل كامل، وأيضاً لأننا لم نكن نحظى باعتراف إلا من قبل إخواننا من إفريقيا السوداء. لكن ذلك لم يثبط عزيمتنا أبداً، بل واصلنا العملَ من أجل التقريب بين الطرفين لأنهما متكاملان فعلًا.
مصر هي إفريقيا. إنها أفريقية في أحد أجزائها وشرقية في جزء آخر. ومن الواضح أن إفريقيا والعالم العربي متماسان جغرافياً، لذا لا توجد أي حاجة لإثبات وجود تكامل ثقافي وحتى عرقي. الدين الإسلامي، الذي نشأ في الشرق الأوسط العربي، لم يقتصر على فتح كل شمال إفريقيا بل شمل أيضاً معظمَ غرب إفريقيا، وبالتالي نشأ مصير مشترك بين هاتين المجموعتين. إذن، هذا هو العامل الأول الذي يدعو إلى الوحدة. والعامل الثاني هو الاستعمار، إذ سيعزز هذا الأساسَ التاريخي الذي هو الإسلام. لذا فالإسلام باعتباره رؤيةً للعالم، والاستعمار باعتباره وضعاً سياسياً، يمثلان عاملين للوحدة بين العالمين العربي والإفريقي.

جون آفريك: هل يمكننا أن نستنتج أنكم، اعتماداً على هذه العوامل، طورتم عقيدةً سياسية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهذا قدر كبير من الأصالة!

المختار ولد داداه: نعم، أليس هذان عاملان مشتركَان في جزأي إفريقيا كليهما؟ إفريقيا والعالم العربي، ألم تسيطر عليهما نفس القوى، أي الفرنسيون والإنجليز؟ هذا أمر فهمناه منذ البداية. وعلى هذا التأسيس لهويتنا، بنينا فلسفتنا السياسية بهدف التقريب بين إفريقيا والعالم العربي بشكل عام. في عام 1960، عندما كنتُ أقول إن موريتانيا همزة وصل بين هذين العالمين وإن هذا يضع عليها مسؤوليةً خاصة، كان الجميع يرد متبسماً، بمن في ذلك بعض الموريتانيين. ومعنى ذلك أن النفوس لم تكن تتقبل تلك القصة. لذا كنتُ أقول إننا قوبلنا بالرفض في البداية. لم يكونوا يريدون التعرف علينا. لكن لله الحمد، انتهى أشقاؤنا المغاربة إلى الاعتراف بالواقع.

جون آفريك: كيف بدأ مسار الاعتراف؟

المختار ولد داداه: في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية، في مايو 1963، التقيتُ الرئيسَ جمال عبد الناصر. كان لقاؤنا حاسماً، وكانت تلك لحظة تطبيع علاقاتنا مع العالم العربي. كانت الجزائر قد حصلت على استقلالها خلال هذه الفترة، لذا لم تشارك في تلك التحفظات، واعترفتْ بنا على الفور. بوسعي أن أخبرك أيضاً بأن بعض الرفاق من رؤساء دول إفريقيا السوداء اعترفوا لي بأنهم لا يفهمونني. لكننا عملنا بإصرار، والحقيقة يجب أن تنتصر.
سأخبرك أيضًا أنه عند ولادة منظمة الوحدة الأفريقية، خلال الاجتماعات الأولى حيث كان علينا تحديد موقعنا فيما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط، لم يكن يجري التطرق للقضية الفلسطينية بشكل مباشر، لقد كانت من المحرمات! وهاك مثال معبِّرٌ: فقد أُنشئت منظمة الوحدة الأفريقية في مايو 1963. وأول مرة نوقش فيها النزاع في الشرق الأوسط كانت في سبتمبر 1967 في كينشاسا، من خلال قرار خجول للغاية قدّمه الوفد الموريتاني. وصُوت عليه في الجلسة الختامية، تقريباً في آخر لحظة.
وبدايةً من عام 1967، أخذت مؤتمرات المنظمة تتطرق للمشكلة بقدر أقل من الخجل، وتبنت تدريجياً الموقفَ المصري.

جون آفريك: وماذا عن المشكلة الفلسطينية؟

المختار ولد داداه: كان الجميع تقريباً يتهربون منها. كانت كابوساً. واستند الخوف من معالجة هذه المشكلة في جزء كبير منه إلى الجهل الذي غذته الدعاية الاستعمارية الجديدة والصهيونية. ومع ذلك، فإن التطور سوف يتسارع بداية من عام 1967. والنتيجة النهائية هي أن الدول الأفريقية ستبدأ في قطع علاقاتها مع إسرائيل. ومثّل ذلك تعبيراً ملموساً عن التضامن مع الشعوب العربية، وأبرز إدانةَ النزعة التوسعية الإسرائيلية.
ولم يكن هذا التطور نتيجةً لجهود موريتانيا وحدها. بل أدت دول أفريقية أخرى دوراً حاسماً في هذه القضية، داخل منظمة الوحدة الأفريقية والمنظمات الدولية، وكذلك من خلال إقامة علاقات ثنائية مع البلدان العربية. لكن يجب أن أقول إن أي بلد لم يتمكن من أن يؤدي الدور الذي اضطلعنا به، نحن الموريتانيين، باعتبارنا همزة وصل.

جون آفريك: يُقال، ولا بد أنكم سمعتم ذلك، إن الحكومة الموريتانية موالية للعرب، وإنها شرق أوسطية أكثر منها إفريقية، وأن هذا انعكاس لسياستكم الداخلية.

المختار ولد داداه: إن البيضان والأفارقة السود ليسوا مجرد إخوة توائم، بل هم توائم سياميون. إن دورنا أمر أملته علينا الطبيعة، وبالتالي فهو يضع على عاتقنا واجباً طبيعياً. في يوليو وأغسطس 1973، كلفت حكومتُنا وزيرَ خارجيتنا بنقل رسالة إلى جميع رؤساء الدول العربية. ولن أفشي سراً بقولي إن التضامن بين إفريقيا والعالم العربي أمر يمليه التكامل بينهما. تذكِّر هذه الرسالةُ بالحاجة الملحة إلى أن تعمل الدول العربية على مساعدة الدول الأفريقية الأكثر فقراً. لأنه إذا كان الله قد أنعم على العالم العربي ومنحه مواردَ أكثر، فمن واجبه في المقابل أن يشرك فيها إخوتَه الأفارقة.
وأستطيع أن أؤكد لك أن جميع الإجابات كانت بالموافقة من حيث المبدأ. إن أساس موقفنا هو أننا لا نريد فقط الحصول على حل للمشكلة الفلسطينية، وهذا أمر لا يعدو أن يكون ظرفياً، بل أيضاً على دعم مستمر من العالم العربي لأفريقيا السوداء، وهو أمر يجب أن يكون دائماً.

جون آفريك: هل يمكنكم تقديم تفاصيل عن فكرة الاتحاد الفيدرالي التي أعلنتم عنها أو أطلقتموها والتي يفترض أن تشمل بلدكم إلى جانب الجزائر والمغرب؟ ولماذا لم تُوجَّه الدعوةُ إلى بلدان أُخرى في المنطقة للانضمام إلى مشروع الاتحاد هذا؟ ألا يلاحظ وجود استقطاب حضاري بين العالم العربي وإفريقيا السوداء؟

المختار ولد داداه: أولا، لم أسمع بهذا الاتحاد مع الجزائر والمغرب. حصل اجتماعان بين الجزائر والمغرب وموريتانيا، أحدهما في نواذيبو (موريتانيا) عام 1970، وثانيهما جرى مؤخراً في أكادير (المغرب)، وتحديداً في يوليو 1973. وبوسعي أن أؤكد لك أنه خلال هذين الاجتماعين، لم يُتطرق إلى مسألة إنشاء اتحاد فيدرالي. لقد تناولنا بشكل أساسي أمرًا آخر، ألا وهو تصفية الاستعمار في الصحراء "الإسبانية" وعلاقاتنا الإقليمية. ومن ناحية أخرى، فقد أكدنا منذ عدة سنوات رغبتَنا في الانضمام إلى المغرب العربي. وقد بدأت هذه الرغبة تتجسد عام 1970، بعد تطبيع علاقاتنا مع المغرب. والانتماء إلى المغرب العربي أمرٌ طبيعي بالنسبة لنا، تماماً كالانتماء إلى منظمة استثمار نهر السنغال أو إلى التكتل الاقتصادي لغرب إفريقيا، أو الانتماء مستقبلًا إلى التجمع الإقليمي لغرب إفريقيا الذي سيجمع الدول الأربع عشرة في منطقتنا، الناطقة بالإنجليزية والفرنسية. هذا المشروع يمثل رغبة لدينا. وهو يفسر لماذا، بالنسبة لنا، لا تطرح العلاقات مع المغرب العربي وغرب إفريقيا ولم تطرح أبداً على أنها مسألة اختيار بين هذا وذاك، بل باعتبارها متكاملة.

جون آفريك: هذا الموقف يبدو أصيلًا جداً، فهل لكم أن تفصلوا المسألة أكثر؟

المختار ولد داداه: موريتانيا هي صورة مصغرة لإفريقيا، فهي أرض التقاء حضارتين إفريقيتين عظيمتين، وهي فخورة بأن تُظهر لإفريقيا والعالم أنها تباشر حالياً تجربة تحث على اجتراح وتطوير أمة إفريقية أصيلة، تضم مكونيْن عرقيين إفريقيين. وقد استوعب أسلافنا هذا الدور، أي دور همزة الوصل، وأولئك الذين يتخوفون من رؤيتنا نميل بشدة، شمالًا أو جنوباً، لا يعرفوننا. باختصار، تود موريتانيا أن تضطلع بهذا الدور الذي تحدثنا عنه طوال مقابلتنا. ويجب أن أضيف أيضاً أن موريتانيا المستقلة لم تخترع شيئاً. فقد استوعب أسلافُنا هذا الدور، أي دور همزة الوصل. فالقوافل القادمة من شمال الصحراء إلى جنوبها تحمل الأفكار والبضائع كانت تعبُر موريتانيا. كما شملت إمبراطوريةُ المرابطين، التي نشأت في موريتانيا وامتدت حتى إسبانيا، مناطقَ واسعةً كذلك من غرب إفريقيا.

جون آفريك: أين هو الخلاف بين الجزائر والمغرب وموريتانيا وإسبانيا حول الصحراء التي تسمى بالصحراء الإسبانية؟

المختار ولد داداه: لقد حدثتك منذ هنيهة عن اجتماعين عقدناهما حول هذا الموضوع. لقد كان الأمر يتعلق أساساً بالسعي إلى توحيد جهودنا لتحقيق تصفية الاستعمار في هذه الأراضي الإفريقية؛ وذلك وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، أي بتطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير. وحتى الآن فضلت بلداننا الثلاثة (الجزائر والمغرب وموريتانيا)، المعنية ترابياً بالمسألة على نحو مباشر، هذه الطريقةَ السلميةَ لكي نحافظ قدر الإمكان، على علاقات حسن الجوار التقليدية مع إسبانيا التي ظلت عربيةً مسلمةً على مدى ثمانية قرون. وكما تعلمون، فلطالما كانت لإسبانيا علاقات جيدة مع العالم العربي. وفضلًا عن ذلك، دعمت حتى الآن القضيةَ العربيةَ في النزاع بالشرق الأوسط، ولم تعترف بإسرائيل قط. ولهذا السبب اخترنا هذه الطريقة للتعامل مع إسبانيا، ونأمل أن تكون ناجحة، وإلا فإن دولنا ستقبل الحل الذي تدعو إليه منظمة الوحدة الإفريقية.