ما السبيل لنُصبح أكثر إنسانيّة؟ د. فاطمة واياو*

"لا سيّد فوكوياما، هذه ليست نهاية التاريخ". بهذه الجملة العميقة في خاتمة الكتاب تضعنا شبكة "كوكبة" (التي هي في هويّتها المختصرة بالإنكليزيّةSALT ، وتحيل اختصاراً على: Stimulation - Appreciate - Learn/ Link-Transfer/ Team) في مواجهةٍ مع مرحلة تاريخيّة تُجدِّد الإيمان بالإنسان وقدراته، وتحثّ على استئناف فصولٍ جديدة من التاريخ بعيداً من الهَيْمَنة الأحاديّة، ذلك أنّه كان هناك في فريق العمل مَن اكتشف معنىً جديداً مُضافاً لحرف اللّام في كلمة سالت SALT: إنّه الحبّ، Love؛ فبالحبّ لن يتوقّف التاريخ الإنسانيّ عن الإنتاج والإبداع.

ما السبيل لنُصبح أكثر إنسانيّة؟ وما هو الطريق إلى الإنسانيّة العالَميّة؟ إنّه السؤال المحوريّ الذي طَرَحهُ الكِتاب الصادر سنة 2013 عن Editions de l'Atelierبعنوان Qu’est ce qui nous rend humains؟. إنّه السؤال المطروح في عالَمٍ معولَم يتّجه أكثر فأكثر إلى المُتاجرة بكلّ شيء وجعْلِ حاضرنا متجراً ضخماً، يبتعد رويداً رويداً عمّا يُمكن أن يجمع البشر كعلاقاتٍ إنسانيّة، أوّلها وأهمّها اللّقاء المباشر الصريح والصادق والحميمي بعيداً عن أيّ نفاقٍ أو أحكامٍ مسبقة. فقد أصبحت كلّ أساليب تواصلنا المُمكنة تتمّ على مواقع التواصل والإنترنت، حيث الحواجز والكذب والنّفاق والصور الخادعة هي سيّدة الموقف. في مثل هذه الظروف المصنَّعة ولا أقول الذكيّة، يبدو سؤال من قبيل: ما الذي يجعل منّا إنسانيّين؟ ليس مجرّد تساؤل عابر بل ضرورة ملحّة ودعوة صريحة للتأمّل في ما آل إليه الإنسان. هكذا أراد مؤلِّف هذا الكتاب د. جان لوي لومبوراي Jean - Louis Lamboray . أن يضعنا أمام مرآةٍ ضخمة نُعيد فيها اكتشاف ذواتنا. ود. لومبوراي، هو طبيب بلجيكيّ الأصل، من مؤسّسي النّظام الصحّي في الكونغو في سبعينيّات القرن الماضي، شغلَ منصب مستشار للبنك الدولي وبرنامج الأُمم المتّحدة المَعنيّ بالإيدز، وله مؤلّفات منها: حول الإيدز: هل يُمكن كسب المعركة؟ حاليّاً هو رئيس شبكة "كوكبة" التي تضمّ أكثر من مليون ناشط من 15 بلداً في العالَم.

تجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب صدرَ أيضاً في طبعة إنكليزيّة سنة 2019، وصدرت الترجمة العربيّة لما يُمكن اعتباره خارطة طريق جديدة في مجال التدخّلات والمساعدات وأيضاً نظرة متطوّرة لمشروعات التنمية، بعنوان: "ما الذي يجعل منّا إنسانيّين؟ حلم مُشترك" عن دار النشر "إنجاز".

المؤلَّف ليس بكتابٍ أكاديمي، ولا برواية خياليّة، بل هو خليط من كلّ هذا. إنّه عبارة عن قصّة حُلم مُشترَك أَبصر النور على أرض الواقع بفضل الإرادة والثقة المُشترَكة بين الفاعلين الذين أسَّسوا قواعد ثابتة لحُلمهم المُشترَك بمُبادرةٍ من الدكتور جان لوي لومبوراي.

الكتاب عبارة عن سردٍ لتجربة وواقع بعيد كلّ البُعد عن التنظير وحملات جمْع التبرُّعات، بحكي فيه الدكتور لومبوراي بأسلوب بسيط وعميق في آنٍ تجربته مع أصدقائه التي قادتهم إلى أن يضعوا إصبعهم على مكمن الدّاء. والدّاء هنا يتمثّل بالفشل الذريع الذي كانت تؤول إليه أغلب مشروعات التنمية والحملات التطوّعيّة والمساعدة في الكثير من مناطق العالَم وفي العديد من المجالات: الفقر، العنف، الإيدز، الملاريا، الجفاف، تجارة الجنس، استغلال العمّال، الاغتصاب الجماعي وغيرها. وإذا كان كتاب "ما الذي يجعل منّا إنسانيّين؟" يحكي عن تجربة الإيدز، فإنّ مبادئ شبكة "كوكبة" تستمدّ هويّتها من الرمزيّة التي تحيل إليها كلمة "سالت SALT" الإنكليزيّة، أي "الملح"، بوصفه ضروريّاً لسموّ الحياة وتقاسُم مباهجها وتحدّياتها بين الشمال والجنوب في إطارِ علاقةٍ تشاركيّة، عادلة ومُتساوية. تقوم المبادئ على: التحفيز – التقدير - التعلُّم/ الربط - النقل/ الفريق؛ وهي بالتالي مبادئ إنسانيّة نستطيع تطبيقها في أكثر من مجالٍ من أجل التضامُن والمساعدة بعيداً من منطق التصدُّق والتعالي والتكبُّر، وأيضاً الاستغلال والأحكام المُسبقة والقاسية.

ما الذي يُمكن استخلاصه من هذه المبادئ المهمّة؟ أنّ كلّ مشروعات التنمية والتوعية التي تمَّ إنجازها في مختلف ربوع العالَم، كانت تفتقد بالتأكيد لروح هذه المبادئ، الأمر الذي جعَلَها تفشل. يُمكن القول إذاً إنّ الكتاب عبارة عن سردٍ وحكيٍ صادقَيْن لتجربةٍ إنسانيّة قادت طبيباً بلجيكيّاً إلى مُغادرة المكتب المريح في العيادة وركوب مغامرة الاقتراب من الإنسان بكلّ أبعاده، وليس باعتباره مريضاً فقط. الإنسان هو قبل كلّ شيء قوّة وطاقة إيجابيّة لو أُحسن استخدامها ولو كَفَّ المُحيطون به عن النَّظر إليه كضحيّة، يغدو مريض الإيدز هو أيضاً طاقة وليس مجرّد مريض، وتغدو ضحيّة العنف الأسري بدورها طاقةً هي أيضاً، وليست ضحيّة فقط.

لقد عملت "كوكبة" Constellation على استخراج ما يُمكن لأيِّ كائنٍ بشريٍّ على وجه الأرض أن يحمله في دواخله الدفينة وفي أعماق روحه المعذَّبة ليتجاوزَ مِحنَه المُختلفة، ليس الإيدز فقط، ولكن أيضاً الفقر والجوع والعنف والتمييز. ثمّة مُجتمعاتٌ محليّة صَنعت المعجزات حينما تمكَّن مواطنوها من أخْذِ المُبادَرة، ومن أخْذ الكلمة التي طالما حُرموا منها بدعوى أنّهم لا يعرفون، وبهدف فرْضِ توجُّهات الخبراء المُفترَضين والمانحين الأسخياء الآتين من مختلف وكالات التنمية العالَميّة.

جاء الكتاب على شكل حكاية، وقد عَرَضَ تجارب ميدانيّة لأعضاء "كوكبة" المحليّين الذين يُسمَّوْن بكلّ بساطة مُيسِّرين ومُيسِّرات، مهما علا شأنهم أو شأنهنّ؛ فهُم وهنّ يبقون دائماً مجرّد ميسِّري/ ميسّرات، ومُسَيِّري/ مُسيِّرات، ومُستمعين/ مُستمعات جيّدين وجيّدات بالنسبة إلى السكّان المحليّين. إنّها استراتيجيّة ذكيّة للدعوة للتفكير الجماعي التشارُكي، من أجل وضْعِ لبناتِ عملٍ محلّي نابع من الإمكانيّات المحليّة الخاصّة التي قد تبدو بسيطة ولكنّها في نهاية التجربة تشهد على أنّ استغلال المُتوافر المحلّي هو أكبر ثروة وأهمّ من انتظار أموال المانحين؛ ذلك أنّه لا يُمكن للمنحة أن تكون مجّانيّة في مطلق الأحوال، ولا بدّ في مرحلةٍ من المراحل أن يتمّ الإعلان عن الثمن الباهظ.

عندما أَطلق الدكتور جان لوي لومبوراي برفقة أصدقائه ومتعاونين/ مُيسّرين من مختلف القارّات مشروعَه "كوكبة" في العام 2004، لم يكُن الهدف تعليم الآخرين أو تكوينهم أو تقديم دروس تقليديّة لهم حول الوقاية من الأمراض مثلاً، وخصوصاً الإيدز، بل كان الهدف بالأساس دعوة الناس للتفكير معاً ومناقشة العراقيل التي يواجهونها من دون نيّة التقييم والحُكم على البشر أو على أفعالهم.

هكذا واصلتْ "كوكبة" عملها أو لنقُلْ لقاءاتها المباشرة والخالية من الحواجز وهي تحمل حقيبة مملوءة بمبادئها الموجزة في كلمة "سالت SALT"؛ فأعضاء "كوكبة" ليسوا في حاجةٍ إلى ملفّاتٍ أو حواسيب أو حتّى إلى الهواتف الذكيّة؛ ذلك أنّ لقاءاتهم غالباً ما تتمّ في مناطق نائية على كوكب الأرض. وقد يبدو لي أنّ أصحاب السترات الذين ظلّوا مُلتصقين بمكاتبهم في بروكسل أو جنيف أو نيويورك لم يسمعوا بأغلبيّة أسماء هذه المناطق، وبالتأكيد يصعب على غالبيّتهم تحديد أماكنها على جغرافيّة الأرض.

كانت لقاءات عفويّة نجح السرد في كتاب "ما الذي يجعل منّا إنسانيّين؟" في وضع القارئ بشكل عفوي وصادق في قلب معركة شعوب ومجموعات منسيّة، ولكنّها استطاعت أن تتجاوزَ العديد من محنها وأهمّها مرض الإيدز. باختصارٍ شديد، الكتاب يضعنا في صلب قصصِ نجاح لتجارب من تايلاند، والكونغو، مروراً بالفيليبّين والهند وصولاً إلى البرازيل وبلجيكا، إضافةً إلى مناطق أخرى عبر العالَم، حيث استطاع ما يزيد على المليون شخص أن يرسموا ملامح مستقبلهم ومصيرهم من خلال الثقة في قدراتهم الذاتيّة والعمل المشترك. استطاعوا أن يقفوا في وجه العديد من الأوبئة التي لا تقتصر على مرض الإيدز فقط، ولكن أيضاً على الأوبئة الاجتماعيّة كالعنف الأسري، والتمييز والتهميش والفقر من خلال وضع استراتيجيّة الضغط على السياسات المتَّبعة وتغيير مسار القرارات لمصلحة مستقبلهم ومستقبل الأجيال المُقبلة.

أخيراً هل هناك تهديد لأن تبوء مبادرة "كوكبة" بالفشل والزوال كالعديد من الأفكار والمشروعات السابقة التي لم تستطع الصمود بعدما غادرها مؤسّسوها؟

لن يُعدَمَ القارئ الجواب عن هكذا سؤال، فرفقاءُ جان لوي لومبوراي وأصدقاؤه المؤسِّسون، اعتمدوا رؤيةً مغايرة لتلك التي اعتدناها؛ فشبكة "كوكبة" تُشبه في نظرهم نجم البحر وليست عنكبوتاً، ذلك أنّ نجم البحر ينمو له طرف آخر حين يفقد طرفاً ما، ما يعني أنّ هناك نجماً جديداً سينمو من الطرف المعزول. إنّه لأمر يتناقض تماماً مع نموذج العنكبوت "الذي ينتهجه العديد من المنظّمات: إذا تمَّت إزالة ساق من العنكبوت فإنّه لن ينمو مجدّدًا، ولا يُمكن للساق أن تُنمّي نفسها لتصبح عنكبوتاً جديداً. أمّا إذا بُتر رأسه، فستكون تلك نهايته، لحسن الحظّ، ليس لنجم البحر رأس".

*كاتبة من المغرب مُقيمة في إدنبرة