الزراعة:خطوة للأمام وخطوتين إلى.......؟

هذه سلسلة من المقالات نسعى لنبين من خلالها بعض النقاط الهيكلية في مجال الزراعة والمعوقات الأساسية. نريد منها ان يتناول المعنيون هذا القطاع بجدية حتى ننهض به مابوسعنا. فلا اريد ان نظل في دوامة بين شخصنة الأمور والتراكمات كي لانقدم شيئا ونفلت بالاعذار والمسوغات. نعم، يجب على كل معني سواء كان من أصحاب المسؤولية والقرار اومن المثقفين اوالمجتمع المدني او اي موريتاني او حتى شركاءنا في التنمية ان يثري الساحة الوطنية في مجال الزراعة بمالديه كي نتجنب مجاعة وكوارث قد تعصف بهذا الكيان لاقدرالله من الداخل او من الخارج. نعم، اقول من الخارج لان شعبا يعتمد على الاستيراد في تغذيته لا يمكن أن يحافظ على سيادته واستقلاليته. فكيف يمكنه الامتناع عن بيع سمكه اوحديده على سبيل المثال وهو مضطر لجلب موارد يشتري بها مايأكل ومايتنقل به وكل مستلزماته الضرورية. إن انعكاسات تعثر الزراعة كثيرة وخطيرة، في حين ان النهوض بها لايستدعي ان نكون دولة غنية، بل يعتمد اساسا على الارادة الصادقة وتكاتف الجهود، خاصة أننا نمتلك كل المؤهلات من أرض وطاقة ومياه. وكلنا مسؤولون عن هذا الواقع، بما في ذلك المجتمع المدني الذي يمكن اي يقوم بكثير من التأطير والتثقيف والتحسيس الى غير ذلك، والبلديات الذين لهم دور أساسي في التنمية المحلية حيث، على سبيل المثال لا الحصر، يمكن للعمد أن يتعاونوا مع دول الجوار عن طريق التوأمة وتبادل التكوين والزيارات الميدانية على مستوى التعاونيات النشطة في بلدياتهم الى غير ذلك. إضافة إلى الدور المحوري لادارات ومؤسسات الدولة المكلفة بالقطاع. إن المتصفح مثلا لموقع وزارة الزراعة، يتفاجأ من كونها لم تنشر مخططا لسياسة القطاع منذ 2016 وكأنها في سبات منذ سبع سنوات ويترجم ذلك غياب المعلومات والبيانات في بعض العناوين كالاحصاء الزراعي الذي توقفت بياناته عند 2015 اوالحصيلة والبحث الزراعي والتكوين والإرشاد وغيرها من العناوين الفارغة وكأنك تزور ديارا مهجورة منذ سنين. كل ذلك رغم الإرادة الصادقة لفخامة رئيس الجمهورية الذي يشرف بنفسه على انطلاقة كل حملة زراعية وإعطائه لتوجيهات بأدق التفاصيل بعض الأحيان مثل مايتعلق بالمكننة والآليات وعصرنة الوسائل لمساعدة المزارعين المسننين. فهل يملك الجميع آذانا صاغية وتنفيذا مخلصا لكل تعليمات القيادة العليا.
إن بلدنا في وضعية مخجلة لنا جميعا. فلماذا تجاوزنا نقص الأساتذة مثلا بعد أن كان جلهم منذ عقدين او ثلاثة من عدة دول شقيقة وتجاوزنا النقص الحاد الذي عانت منه عدة مجالات في الإدارة والقانون والإقتصاد وحتى في بعض التخصصات الطبية، كل ذلك بفضل إنشاء الكليات وعصرنة الجامعات في تلك المجالات واهملنا إنشاء كلية للزراعة والبيطرة مثلا. إن قيام كلية للزراعة والبيطرة هو الطريق الوحيد للتكوين والبحث والاحصائيات وكل مايتعلق بالقطاع، بل هو الطريق الامثل والارخص نتيجة قيام الطلبة والباحثين بكثير من المهام. فكيف لانستفيد من تجارب الدول الشقيقة واغلب دول العالم التي لم تتطور فيها الزراعة الا بفضل إنشاء كلية للزراعة حيث خلال سنوات وجيزة تضخ في السوق من الخبراء والفنيين وأصحاب المعرفة من يمكنهم النهوض بالزراعة والتنمية الحيوانية في كل شبر من البلاد.
إننا في ظل هذا التخبط نقطع خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء. ففي تقرير إحدى الهيآت الدولية مثلا منذ اربعين سنة (1984) كانت المساحة القابلة للزراعة المطرية تصل 220 الف هكتار. وفي سنة 2010 وحسب تقارير الوكالة الموريتانية للأنباء فإن المساحة القابلة للزراعة المطرية تصل 220 الف هكتار. أما في حملة هذه السنة فقد ورد في خطاب وزير الزراعة أن المساحة القابلة للزراعة المطرية تصل إلى 220 الف هكتار بقوله أن المساحة الإجمالية 300 الف هكتار منها 80 الف هكتار للزراعة المروية لشعبة الارز. وعليه نكون قد عشنا قرابة أربعين سنة من الركود في نفس النقطة الا وهي 220 الف هكتار كمساحة قابلة للزراعة المطرية. أليست هذه فضيحة لنا جميعا كل على مستواه. بل إنها تستوجب العقوبة لكل واحد منا. وخاصة أننا نمتلك من المؤهلات ما لا يتوفرعليه غيرنا ممن استطاعوا القفز بالزراعة. فماهي سياستنا في استغلال الكثير من السدود مثل سد فم لكليته الذي شاب وشاخ دون أن نستغله كما ينبغي. واين مخطط استغلال سد واد سكليل العملاق الذي فاضت مياهه منذ سبع سنوات وكان بإمكانه أن يعطينا اكتفاء ذاتيا في مجال البصل والبطاطس مثلا الذين استطرد الوزير في مؤتمره الصحفي الأخير انهما ارتفعا في هلندا نتيجة نقصهما. وأين استغلالنا للبحيرات السطحية والمناطق الرطبة الكثيرة التي أنعم الله علينا بها على ربوع بلادنا. بل هل استفدنا من البحيرات الجوفية التي تعم بلادنا في كثير من الاماكن. فعندما يتم إنشاء مؤسسة واحدة مكلفة باستغلال احد هذه الموارد للزراعة، سنحقق قفزة نوعية ان لم نصل إلى الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات. فعلى سبيل المثال، تنعم بلادنا بمئات آلاف الكلومترات القابلة للزراعة على بحيرة تاودني التي تقدر حصتنا منها ب 25%. وخاصة أننا نتمتع بأكثر من 30000 كم² تقريبا في جنوب شرقي البلاد من هذه البحيرة الجوفية حيث تعتبر هذه المنطقة من أعظم إمكانات البحيرة حسب الدراسات التي أجريت عليها في الدول المعنية ومنها مايعرف لدينا ببحيرة أظهر. إن مساحات بهذا الحجم لايمكن لأهلها ان يظلوا ياكلون من وراء حدودهم. لكننا شعب مليء بالالغاز والتي من ضمنها مثلا، إنشاء مزرعة لتحسين سلالة الأبقار بتمويل وتنفيذ دولة صديقة بغلاف ستة ملايين دولار وكأن ميزانيتنا عاجزة عن تمويل مثل هذا المبلغ الزهيد، أم أن الارادة ناقصة وتلك هي الكارثة. ثم أنشأنا مركزا لتحسين سلالات الاغنام منذ سبع سنوات في بنشاب وحتى الآن لم نشاهد في الأسواق اوعند المنمين اية أغنام من السلالات المحسنة رغم أن الغنم سريعة التكاثر (تلد مرتين في السنة).
إن هذا المجال الحيوي الذي يعيش فيه اغلب سكان بلدنا يشهد نوعا من الإهمال على كل المستويات بدء من التجمعات القروية والبلديات مرورا بمختلف مكونات المجتمع المدني والهيآت المهنية والتعاونيات وصولا إلى المكلفين بالقطاع والشركاء. فإلى متى ونحن لانفكر إلا في الأكل دون الإنتاج كاستيرادنا لزيوت الطهي منذ اكثر من ستين سنة ونحن لم نفكر في إنتاجها رغم سهولة تصفيتها من المحاصيل الزراعية كالذرة ودوار الشمس والصويا وغيرهم. أم إننا ننتظر من الآخرين أن يأتوننا ويزرعوا لنا أرضنا مثل ما وقع لمزرعة تحسين الأبقار وكقيام بعض الأجانب والشركات الأجنبية من استغلال عدة مزارع (البطيخ، التوت، الأعلاف، الخ) وكأننا نفتقد القدرة على زراعة الأرض أم أن منظومتنا وآلياتنا لاتفسح المجال إلا لطبقة معينة من الراغبين في ممارسة الأنشطة الزراعية كما قد المح عليه أمين عام سابق للوزارة خلال اجتماع معه أعرب فيه عن عدم وجود أرض زراعية تمنحها الوزارة. وليسمح لي القارئ الكريم على الإطالة، لكن الموضوع جوهري ويستحق تأليف عدة مجلدات. لكن سأستعرض مستقبلا إن شاء الله في سلسلة من المقالات تفاصيل أخرى. وفي انتظار ذلك، أرجوا من الجميع أن يكثروا من دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غيرذي زرع .....).صدق الله العظيم. حفظ الله البلاد والعباد.