وترجل فارس الفصحى وعميد الدبلوماسية محمد فاضل ولد الداه ذكريات من أيام القاهرة / د. محمد الحسن ولد محمد المصطفى

بدأت أنشر مقالاتي في جريدة "الشعب" الوطنية المعروفة في مستهل عقد التسعينات عندما كنت لا أزال طالبا في جامعة نواكشوط، وفي قسم اللغة العربية وآدابها على وجه الخصوص.
 وقد نشأ لدي اهتمام مبكر بالأدب الموريتاني المعاصر والعوامل التي أدت إلى وجوده في البلاد في سياق التحولات العميقة التي شهدتها البلاد إيجابا وسلبا منذ مطلع الستينات خاصة بعد الحصول على الاستقلال سنة 1960 وانطلاق مشروع بناء الدولة، والخلافات التي دارت بين مختلف أطراف العملية الوطنية حول المنهجية والأهداف المرحلية والبعيدة، والذي أدت في النهاية إلى انطلاق النضال الوطني للشباب العربي من خريجي المحاظر والمعاهد الأصلية وغيرها من منافذ التعليم العربي، والذي كان من أبرز نتائجه ترسيم اللغة العربية سنة 1973 وغيرها من القرارات الوطنية المعروفة، بفضل نضال ذلك الجيل من الوطنيين الموريتانيين الأبطال الذين لولاهم لما كان للغة الدستور والثقافة العربية الإسلامية وجود ملموس على أرض الواقع في المؤسسات التعلمية أو القطاعات الإدارية ...

 

 وقد تفرق هؤلاء الوطنيون الأحرار لاحقا في اتجاهات شتى خدمة للمشروع الوطني خلال العقود الصعبة اللاحقة.
ومن أبرز هؤلاء الأبطال والرجال العظماء السفير، والوزير، والشاعر المبدع الرائد، والخطيب المفوه، والكاتب المتميز، ورجل القانون البارز، والإنسان الأصيل الشهم محمد فاضل ولد الداه، تغمده الله بواسع رحمته.

 

كان المرحوم محمد فاضل ولد الداه صاحب مواهب فذة، فالرجل من رواد شعراء القصيدة الحديثة في موريتانيا مع تضلعه في الشعر العربي الأصيل، وكان من أوائل الإعلاميين الموريتانيين ، تقلد مسؤوليات المكتب الإعلامي في الرئاسة، وإدارة الشركة الموريتانية للصحافة والطباعة والنشر التي تصدر عنها جريدة الشعب ومهام إعلامية هامة أخرى، كما تقلد مناصب وزارية ودبلوماسية كبيرة أدى خلالها خدمات جليلة لبلاده، ولكني سأتوقف قليلا مراعاة لحجم التدوينة عند فترته سفيرا لموريتانيا في القاهرة ومندوبا لها لدى جامعة الدول العربية ما بين 1994 و1995 إن لم تخني الذاكرة في التاريخ الدقيق.

 

كانت فترة قصيرة نسبيا لكنها كانت حافلة بالنشاط الدبلوماسي والإعلامي في عاصمة العرب التي تستضيف مقر جامعة الدول العربية وعددا من هيئاتها المختلفة، وكثيرا من المراكز والجامعات، والممثليات الدولية.

 

كانت موريتانيا بحاجة إلى إعادة التوهج والحرارة لعلاقاتها الثقافية والإعلامية فضلا عن السياسية والاقتصادية مع مصر بعد انقطاع دام عقدين من الزمن، حيث كانت هذه العلاقات عرفت نشاطا وحيوية أيام الرئيس المرحوم المختار ولد داداه، والرئيسين جمال عبد الناصر، وأنور السادات في الفترة الأولى من رآسته.
أما عصرها الذهبي فكان في عهود رحلات علماء الشناقطة للحج، وزيارة الأزهر الشريف للتدريس، أو الدراسة في في عاصمة العرب العتيدة.
أذكر أن السفير المرحوم محمد فاضل كان بالإضافة إلى همومه الدبلوماسية الرسمية، يحمل هما أكبر هو إعادة التعريف ببلاده - التي كانت سمعتها يوما ما تبلغ عنان السماء في قاهرة المعز لدين الله - بوصفها بلدا عربيا إفريقيا إسلاميا يقدم إسهاما سياسيا وثقافيا وحضاريا لا غنى عنه للعالم الإسلامي، من خلال تلك العلاقة العميقة التي تربط الشناقطة بأشقائهم العرب في الشمال، وأشقائهم الأفارقة في جنوب الصحراء منذ امتد الإسلام بعيدا مع منعرجات نهر النيجر، وأدغال السافانا الرائعة.

 

أذكر أنني كنت في القاهرة للدراسات العليا في الفترة التي عمل فيها المرحوم محمد فاضل ولد الداه سفيرا في القاهرة وممثلا لموريتانيا في جامعة الدول العربية، وقد أحسست بسعادة غامرة إذ أرسلت موريتانيا إلى أرض الكنانة سفيرا وقامة علمية وثقافية وأدبية بحجم محمد فاضل ولد الداه.

 

كما لا زلت أذكر باعتزاز أنه عندما علم رحمه الله باهتماماتي الإعلامية والثقافية بادر مشكورا بدعوتي للمساهمة في النشرة التي تصدرها السفارة للتعريف بالبلاد وتاريخها وحاضرها، ومميزاتها، ومكانتها الإقليمية والعربية والدولية، وهي دعوة حظي بها بلا شك غيري من المهتمين من الطلاب المتحمسين مثلي ممن يرغبون في المشاركة الإعلامية والثقافية. 

 

كنت فخورا بذلك المنشور الجميل الغني بالمعلومات والأخبار، فأهديت أعداده للمثقفين والإعلاميين المصريين من أصدقائي - وهم كثر-  في زمن كنت أقوم فيه بكل يمكنني فعله للمساعدة في التعريف ببلدي حيث لم يكن معظم الناس في مصر والبلاد المشرقية الشقيقة يعرفون سوى اسمها ومعلومات محدودة جدا، كموقعها او اسم رئيسها الأول الأستاذ المختار ولد داداه رحمه الله، ولا يربطونها غالبا بماضيها المشرق المجيد وعلاقاتها الثقافية التي ساهمت في بزوغ النهضة العربية الحديثة وإحياء التراث العربي المجيد.

 

كان من ثمار تلك الأيام الجميلة أن أجريت مقابلات نادرة مع أعلام الأدب العربي من أمثال نجيب محفوظ وغالي شكري وعز الدين إسماعيل وعبد الوهاب البياتي وفدوى طوقان ومحمد الفيتوري وغيرهم كثير، وقد نشرتها جريدة "الشعب" ولقيت من الاستحسان والتقدير ماهو معروف لدى قراء الجريدة في ذلك الوقت، وربما عدت إلى هذا الموضوع في تدوينة أخرى إن شاء الله تعالى.
خلال تلك السنوات القليلة عددا الغزيرة إنتاجا تلقيت كل تقدير من السفراء الموريتانيين الذين تعاقبوا على السفارة ، وكان المرحوم محمد فاضل ولد الداه على رأسهم، وكانت فترة وجوده في القاهرة مناسبة للحديث معه كرائد من رواد الأدب الموريتاني المعاصر، وواحدا من أولئك المثقفين العرب النوادر الذين لايرغبون في الدعاية لأنفسهم ولا الكلام الكثير عن قدراتهم المعرفية، أو إنجازاتهم، ونجاحاتهم في مسارات الحياة العلمية والعملية.

 

 كان موضوع رسالتي لدكتوراه السلك الثالث (الماجستير) عن الشعر الموريتاني المعاصر وقد نوقشت بامتياز في يناير 1996 ونشرت سنة 2004 في الشارقة، وكما أسلفت كان المرحوم محمد فاضل ولد الداه من أوائل المجددين الذين درستهم في هذه المرحلة المفصلية من تطور الشعر الموريتاني مع أقرانه الرواد أحمدو ولد عبد القادر، ومحمدن ولد اشدو، ومحمد المصطفى ولد بدر الدين ...، كما درست في مجال النقد الأدبي زميلهم ورفيق دربهم الكاتب الكبير والصديق العزيز محمد الناجي محمد أحمد الذي كان لحسن الحظ يقيم وقتها في القاهرة إطارا ساميا في جامعة الدول

 

العربية، وكان بأخلاقه الرفيعة، وثقافته العالية نعم الأخ الأكبر والصديق العزيز طوال تلك الفترة الزمنية الحافلة بالنشاط والحيوية والطموحات الثقافية العريضة..
وكان منزل سعادة السفير محمد فاضل ولد الداه مفتوحا لزيارة الطلاب دون حراسة بتعليمات كريمة منه رحمه الله، حرصا منه على عدم شعورهم بالغربة، والبعد عن الأهل والوطن، وكان يغمرنا بحسن استقباله وبشاشته وكرمه رغم مهامه ومتاعب عمله الكثيرة.

 

كما أفسح د. محمدو الناجي حفظه الله منزله لاستقبالنا بكل حفاوة وترحاب وأريحية، وكذلك كان حال باقي منازل الجالية الموريتانية القليلة آنذاك عددا الكبيرة حجما في أخلاقها ونبلها وفضلها، وأذكر منهم الإخوة الفضلاء عبد الرحيم ولد مسكه، وسيدي ولد الشيخ، وافال مكط، ومحمد عبد الله ولد ابيدش، والشيخ آب فلكل منهم وافر الشكر والتقدير.
كان آخر لقاء لي مع المرحوم محمد فاضل ولد الداه سنة 2007 صحبة الأخ الفاضل والصديق النبيل د. محمدو الناجي محمد أحمد وكان اللقاء فرصة للعودة لتلك الذكريات المجيدة، وكان رحمه الله لا يزال يحتفظ في ذاكرته بتلك الأيام الذهبية التي تمثل جانبا من عمله الدبلوماسي العريض في بلاد عربية شقيقة أخرى خدم فيها موريتانيا بكل قدراته الدبلوماسية ومواهبه الثقافية والإعلامية الفذة.

 

وكان خاتمة أعماله الإدارية والثقافية السامية منصب الأمين العام لجائزة شنقيط ، كانت تلك الفترة من أزهى فترات الجائزة في نظري، كما كانت من أفضلها على مستوى المخرجات العلمية والأدبية، وكانت خطبه  رحمه الله خلال حفل إعلان الجوائز دررا من درر البلاغة العربية، وميثاقا للعمل الثقافي وتكريم العقول الوطنية الحية، وتثمين ذخائرهم العلمية والأدبية ، وهذه شهادة  محايدة أقولها بكل تجرد وموضوعية.

 

رحم الله العميد محمد فاضل ولد الداه وتقبله في الصالحين الأخيار، وأنزله في مراتبهم من جنات النعيم.